تحاليل واختبارات ورغيف خبز مسرطن... أخبارٌ مضت وخلّفت وراءها جدلًا في الشارع الليبي حول حقيقةِ أرقام مفزعة ومخيفة، لتختفي هذه الشكوك والمناقشات مؤقّتًا حتّى تعود مرّةً أخرى وتشعل مواقع التواصل الاجتماعي والرأي العام...
بين مصدّق ومكذّب ومشكّك، ما حقيقة برومات البوتاسيوم؟ وأين الدولة والرقابة الغذائية من هذا؟ وهل الخبز الليبي فعلًا مسرطن؟
من البداية وحتى النهاية، هذا ما سنتعرّف عليه في مقالنا اليوم.
الخبز، وبكل أنواعه، يعتبر من أساسيّات مائدة العائلة الليبيّة من مختلف الطبقات، طحينٌ وماء وملح وبعض المكوّنات البسيطة تَصنع هذا الرغيف اللذيذ، ولإنتاجه بأفضل صورة، قد تضاف مع المكوّنات الأساسيّة محسّنات للعجين؛ تعمل على رفع جودة المنتج النهائي.
ولكن... هل من الممكن أن تكون هذه الطراوة مزيّفة؟ وهذا القوام الرائع والشكل الجميل مهلكًا لصحّتنا؟
محسّنات الخبز: هي خليط من المواد تضاف أثناء تحضير ومعاملة عجين الخبز، بغرض تحسين خصائص الرغيف المُنتج.
يحتوي القمح على بروتين يسمى "الجلوتين"، يعمل الجلوتين كالغراء في ربط العجين ببعضه بعضًا عبر عمليّات كيميائيّة تتكوّن فيها شبكات جلوتينيّة عن طريق الأكسدة.
في الماضي، كان الخبّازون يعتمدون على تعريض العجين للهواء الطلق، لكنَّ هذه العمليّة تستغرق وقتًا طويلًا، ومع اكتشاف المحسّنات أصبحت هذه المشكلة من الماضي مع غيرها من المشاكل الأخرى.
تعمل المحسّنات على تحسين جودة الطحين، وتسريع عمليّة التخمير، ومضاعفة حجم الرغيف، وتقوية الشبكة الجلوتينيّة، وإعطاء صلاحيّة أطول للرغيف، وغيرها... يمكن للمحسّنات أن تكون أنزيمات أو مستحلبات أو مواد مؤكسدة أو فيتامينات أو غيرها؛ ليست كل المحسّنات ضارّةً بصحّة الإنسان، ولكن يمكن لبعضها أن يكون كذلك، ومن أشهر أنواع المحسّنات المستخدمة في صناعة الخبز هي: (برومات البوتاسيوم KBrO3). [1]
برومات البوتاسيوم (KBrO3): أو "البرومات" هي مادّةٌ مؤكسدة قويّة، إضافةً لاستخدامها في تحضير بعض مستحضرات التجميل وتعقيم المياه، تستخدم برومات البوتاسيوم محسّنًا للخبز والمعجّنات (بتركيزات صغيرة ودقيقةٍ جدًّا) وتعتبر من أرخص أنواع محسّنات العجين.
برومات البوتاسيوم هي نوعٌ من المواد المؤكسدة ذات الفاعلية البطيئة أثناء عمليّة التخمير، حيثُ تقوم بأكسدةِ العجين وصنع الروابط الجلوتينيّة في وقتٍ أسرع بكثير من الهواء الطلق، كما أنَّها تُبيّض العجين وتزيدُ من مرونته، ممّا يؤدّي إلى إنتاج فقّاعات صغيرةٍ رقيقةٍ بداخل العجين مع ارتفاعه أثناء الخبز، لتكوين منتج نهائي أبيض مُغرٍ ولذيذ!
بدأ استعمال برومات البوتاسيوم محسّنًا للخبز لأوّل مرّة عام 1923، ومنذ ذلك الحين أصبحت الحل السحريَّ لتغطية أغلب عيوب الطحين والمشاكل المتعلّقة بالشكل والجودة النهائيّة للخبز. [1] [2] [3] [4]
عند الخَبز، تتحوَّل البرومات عبر عمليّات كيميائيّة إلى مواد صالحة للاستهلاك البشري دون ترك أيِّ أثر في المنتج النهائي، حيث إنَّ لها تركيزات دقيقة جدًّا، فهي مادّة يصعب التعامل مع مقاديرها وتحديد الآمنة منها، أيُّ زيادة لكميّات غير مقاسة بدقّة أو بطريقة عشوائيّة أو عدم خَبز الخُبز لمدّة كافية أو على درجات حرارة ليست عالية ستؤدّي إلى وجود البرومات في المنتج النهائي، ولا يجب أن يحتوي المنتج النهائي على آثار البرومات.
في عام 1964، بدأت لجنة خبراء تديرها منظمة الصحّة العالميّة بتقييم برومات البوتاسيوم، ومع مرور الوقت وتطوُّر العلم، تبيّنت صلة هذه المادّة بمشاكل صحيّة، ففي عام 1982 تم نشر أوّل سلسلة من الدراسات التي أظهرت أنَّ برومات البوتاسيوم تتسبَّب في مجموعةٍ من أمراض السرطان لفئران المختبرات، وعاقبة نتائج هذه الأبحاث كانت أن قرّرت اللجنة عام 1992 أنَّ: (استخدام البرومات في عمليّة الخَبز "غير مناسب" خصوصًا في ظلِّ وجود بدائل لا تشكّل خطرًا على الصحة)، وهذه البدائل هي مثل حمض الأسكوربيك (فيتامين ج)، وفي 1998 تمَّ تصنيفها -أي البرومات- على أنّها (مادة قد تكون مسرطنة للبشر) من قبل الوكالة العالميّة لأبحاث السرطان (IARC)، تحت التصنيف (2B Carcinogen). [5] [6] [7] [8] [9] [10]
ومنذ أن لاقت رواجًا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، انخفضت معدّلات استخدامها عندما بدأت الشكوك تراود هذه المادّة، حيث حظرت عديد من الدول استعمالها بسبب احتماليّة كونها مادةً سامةً جينيًّا (مسرطنة)، ومن أوائل الدول التي قامت بحظر البرومات هي: دول الاتحاد الأوروبي، والأرجنتين، والبرازيل، وكندا، ونيجيريا، وكوريا الجنوبيّة، والبيرو، وعديدٌ من الدول الأخرى…
أمّا في الدول التي لم تقم بحظرها، فقد تمَّ وضع حدٍّ أقصى من هذه المادة لا يجب تجاوزه عند إضافتها إلى العجين، على افتراض أنَّ كل البرومات تتحوَّل ضمن هذه الحدود ولا يبقى لها أثر، وقد تم تغيير هذا الحدِّ الأقصى أكثر من مرّة، ففي عام 1983، تمَّ وضع حدٍّ أقصى هو 75 جزءًا من المليون لإضافته إلى العجين، ومن ثمَّ تمَّ تقليص هذا الحدِّ إلى 60 جزءًا من المليون، حيث إنّه يعتمد على ما إذا كان المنتج النهائي يحمل آثار البرومات أم لا.
أمّا في الولايات المتحدة، فلم يتمَّ حظرها بشكل كلي لأسباب قانونيّة، لأنَّ إدارة الغذاء والدواء أجازت استخدامها قبل إصدار "قانون ديلاني" عام 1968، والذي يحظر كلَّ الأغذية ومستحضرات التجميل التي يُشتَبه أنّها مُسرطِنة، ولكن منذ عام 1991، تحثُّ إدارة الغذاء والدواء الأمريكيّة رسميًّا الخبّازين على وقف استخدام البرومات طوعًا، وفي بعض الولايات يَفرض القانون وضع تحذيرات واضحة على أيِّ منتج يحتوي هذه المادّة، ومع القليل من الصلاحيات والكثير من التوعية، توقّف كثيرٌ من الخبّازين عن استخدامها في صناعة الخبز والمعجّنات، واتّجهوا إلى بدائل خالية من البرومات. [1] [11] [15]
برومات البوتاسيوم، المادّة المعجزة... نتائج خُرافية وسعر رخيص، فهل يتمُّ استعمال هذه المادّة المصنّفة على أنها "قد تكون مسرطنة للبشر" في ليبيا؟
نقلًا عن مركز الرقابة على الأغذية والأدوية، فإنَّ حظر استخدام برومات البوتاسيوم في ليبيا ليس بالأمر الجديد، ففي سنة 2005، أُصدر القرار رقم 475 من قبل اللجنة الشعبيّة العامّة للاقتصاد والتجارة (سابقًا) بشأن حظر استيراد واستعمال محسّنات الخبز التي تحتوي على برومات البوتاسيوم. [12] [13]
ووفقًا للمواصفات القياسيّة الليبيّة لصناعة الخبز المذكورة في القرار رقم 822 لسنة 2015، أوضح مركز الرقابة المواد المسموح بإضافتها وكذلك الممنوعة، وكان من ضمن المواد المحظورة: (برومات البوتاسيوم E 924). [14] [15
ولكن، في الآونة الأخيرة، وبعد نشر نتائج دراسةٍ قام بها فريقٌ بحثيٌّ في المعمل المتقدّم للتحاليل الكيميائيّة في نهاية عام 2020 المنقضي، أثار هذا الموضوع جدلًا على مواقع التواصل الاجتماعي والشارع الليبي…
في هذه الدراسة، تمَّ جمع عيّنات من عديدٍ من أنواع الخبز من 25 مخبزًا في منطقة تاجوراء في ضواحي العاصمة طرابلس، وكانت النتائج النهائيّة مفزعة، إذ احتوَت أقلُّ عيّنةٍ على 300 ضعف ما هو مسموح به، وزادت بعض العيّنات عن 1300 ضعف. [16]
"هل يشكّل رغيف الخبز خطرًا على حياة الليبيين؟" هو عنوان تقرير مصوَّر قامت به وكالة الأنباء الفرنسيّة "France 24" بعد انتشار نتائج هذه الدراسة.
وفي يناير 2021، اجتمعت لجنةٌ من رقابة الأغذية والأدوية الليبيّة افتراضيًّا مع خبراء من ألمانيا وبريطانيا، من أجل إجراء مسح شامل في كافة مناطق ليبيا عن برومات البوتاسيوم المستخدمة في صناعة الخبز، ولا خبر عن نتائج هذا المسح منذ ذلك الحين. [17] [18]
والآن -في الربع الأخير من عام 2021- تعود هذه الضجّة على ساحات مواقع التواصل الاجتماعي مرّةً أخرى، وهذه المرّةَ يُحذّر مركز الرقابة من استعمال هذه المادة.
وضمن طيّات هذا التحذير والجدل القائم على الإنترنت بين مصدّق ومكذّب، تواصل فريق التحقيق الخاص بمنصّة أنير للتحقُّق من الأخبار الزائفة مع مركز الرقابة على الأغذية والأدوية بخصوص حقيقة استعمال هذه المادّة في المخابز الليبية، ليجيب الأخير بالنفي، وأنَّ "الخبر غير صحيح، لا تستعمل هذه المادة في المخابز الليبية". [19]
وفي تحقيق أجرته قناة "تبادل" بالخصوص، صرّح رئيس اللجنة العُليا لمتابعة المخابز بعدم علمهم بوجود هذه المادّة في الخبز قبل انتشار خبر النتائج، وبأنّها كانت مفزعةً لهم. كذلك، في لقاءٍ مع أحد موظفي الشركة الليبيّة للمطاحن والأعلاف، نفى الموظّف وجود هذه المادّة في الدقيق، بحجّة أنَّ القمح المستورد تتمُّ الموافقة عليه من قِبل إدارة الغذاء والدواء قبل طحنه. وأمّا بالنسبة إلى مدير إدارة الشؤون التجاريّة بوزارة الاقتصاد، فأكّدَ على أنَّ هذه المادّةَ محظورة، وأنّها إن وُجدتْ فاستيرادها تمَّ بطُرق غير شرعيّة، وأنَّ استخدامها في تصنيع الخبز هو إجراء غير شرعي وغير قانوني.
وتواصل فريق التحقيق أيضًا مع مدير المعمل المتقدِّم للتحاليل الكيميائيّة "الناجي قريش" للحصول على مزيدٍ من المعلومات، ليؤكّد مدير المعمل أنَّ الهيئة الليبيّة للبحث العلمي منعته من الإدلاء بأي تصريح في الخصوص. [20]
أخيرًا، تمَّ إصدار قرار لسنة 2021 تحت رقم 258 يحظر استيراد برومات البوتاسيوم ويمنع استخدامها، وينصُّ القرار في المادة رقم 1 منه أنّه "يستمر" حظر استيراد برومات البوتاسيوم (لأنّها ليست أوّل مرّةٍ يتمُّ فيها حظر هذه المادة)، كما نصّت باقي المواد على منع إضافتها في المخابز ومعامل الحلويّات والمعجّنات بشكل عام، ومنعت أصحاب المطاحن من إضافتها في إنتاج الدقيق، إضافةً إلى منع تسويقها منعًا باتًّا، وتجريم التعامل بها تحت أيِّ شكل من الأشكال.
برومات البوتاسيوم... مادّةٌ قد تكون مُسرطِنة للبشر وتسبّب عديدًا من الأمراض، استخدامها غير ضروري مع وجود عديدٍ من البدائل الآمنة لها.
بين أدلّةٍ تؤكّد وردود تنفي... هل يؤدي الخبز الليبي إلى السرطان؟
المصادر
مواضيع أخرى قد تهمك
-
2023/03/16ما حقيقة اكتشاف الطالبة الليبية عائشة المنصوري علاجا للروماتيزم؟تجارب سريرية وعروض من شركات أجنبية وطلب متزايد على تركيبة توقف تلف المفاصل والتي طورتها الطالبة الليبية عائشة المنصوري، فما حقيقة هذه التركيبة السحرية التي انتشرت مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل صادقتها الجمعية الليبية لامراض المفاصل و الروماتيزم حقاً؟
-
2021/09/29الخبز والمحسّنات المُسرطنة... حقيقة استخدام برومات البوتاسيوم في المخابز الليبيةتحاليل واختبارات ورغيف خبز مسرطن، أخبار مضت وخلّفت وراءها جدلًا في الشارع الليبي حول حقيقةِ أرقام مفزعة ومخيفة، بين مصدّق ومكذّب ومشكّك، ما حقيقة برومات البوتاسيوم؟ وأين الدولة والرقابة الغذائية من هذا؟ وهل الخبز الليبي فعلًا مسرطن؟
-
2023/10/22إعصار دانيال في ليبيا: عاصفة من الأخبار المضللة تجتاح وسائل التواصل الاجتماعيفي أوقات الأزمات والكوارث، يصبح الناس بحاجة ماسة إلى الحصول على المعلومات، وأكثر استعدادًا لمشاركتها دون التحقق من دقتها، وهذا يؤدي إلى ازدياد انتشار المحتوى المضلل والخاطئ مما يتسبب في تأخير أو تشتيت جهود الإغاثة وتعميق مخاوف الناس.