مع ازدياد عدد المعلومات الزائفة على الإنترنت أصبح من الصعب للمستخدم البسيط تفريق طبيعة الأخبار لمعرفة حقيقتها بنفسه، ولهذا السبب أصبح من الضروري وجود فِرق ووحدات لتدقيق الحقائق. ولكن هل يمكن أن تختلف نتائج عمليات تدقيق الحقائق وفقاً للتحيزات الشخصية للمدقق؟ ما هو التحيّز الإدراكي؟ وما هي أشهر المغالطات التي قد يقع فيها مدقق الحقائق؟ وما هي السلوكيات التي يمكن أن يتبعها مدقق الحقائق لضمان الوصول إلى الحقيقة بكفاءة؟

مع ازدياد عدد المعلومات الزائفة على الإنترنت أصبح من الصعب للمستخدم البسيط تفريق طبيعة الأخبار لمعرفة ما هو الصحيح أو المضلل أو الزائف بنفسه، ولهذا السبب بادرت العديد من المؤسسات الاعلامية بإنشاء فرق ووحدات خاصة لتدقيق الحقائق وذلك بتعيين صحفيين ومدققي حقائق للتقصي من صحة العديد من الادعاءات المختلفة لمكافحة الشائعات ونفي الأخبار الزائفة المنتشرة على الشبكة. يتجلى دور هذه المنصات في البحث المعمق والتقصي من حقيقة الأخبار ومشاركة النتائج على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لمكافحة المعلومات المغلوطة على شبكة الانترنت.


تُساعد منصات تدقيق الحقائق في تصحيح وجهات النظر للأشخاص، بالذات أولئك الذين بنوا أحكاماً مستندة على الأخبار الزائفة، فرضياً تعتبر مثل هذه المبادرات خطوة كبيرة وفعالة لمكافحة المعلومات الزائفة التي يتم تداولها، ولكن عندما نسلط الضوء على هذا الموضوع من مصباح -تعقيدات العالم الحقيقي- نكتشف أن الأمر ليس بهذه البساطة!


حيث تختلف وجهات النظر للعديد من الناس لنفس الحدث بناءً على تجاربهم السابقة ومعرفتهم وقيمهم، وهذه ظاهرة وثقها علماء النفس مراراً وتكراراً، فهل يمكن أن تختلف نتائج عمليات تدقيق الحقائق وفقاً للتحيزات الشخصية لمدققي الحقائق؟ وما هي أشهر المغالطات التي قد يقع فيها مدقق الحقائق؟


أثبتت الدراسات والتجارب العلمية اختلاف وجهات النظر والأحكام بين الناس عند تعرضهم لنفس المحتوى تحت نفس الظروف، على سبيل المثال: عند عرض فيديو يظهر مجموعة من المتظاهرين في شارع عام، رأى بعض الناس مظاهرة سلمية تطالب ببعض الحقوق، بينما رأى البعض الآخر أنها مجرد حشود جامحة تمنع المشاة والسيارات من قطع الطريق وتعرقل حركة السير.


التحيز الادراكي - perception bias




على عكس عالم الأبحاث العلمية، فإن عالم السياسة مليئ بالفوضى والضوضاء نتيجة الادعاءات المتناقضة التي يمكن أن تؤدي إلى خلافات كبيرة حول الحقائق نفسها، ففي سياق الأخبار السياسية وبالذات القضايا المعقدة غالباً ما تكون "الحقائق" المذكورة هي آراء شخصية للأفراد الذين لديهم وجهات نظر سياسية مشتركة مع ما يتضمنه الادعاء.


كلا الصحفيين ومدققي الحقائق هم بشر ويمتلكون نفس التحيزات الشخصية والنفسية كأي إنسان آخر، وهكذا قد تتأثر عملية تدقيق الحقائق بتحيزاتهم السياسية والأيديولوجية بالذات في السياق السياسي الذي قد يحمل العديد من الادعاءات المتناقضة والتفاصيل الغير واضحة للعموم. وذلك عبر العديد من الطرق والمغالطات المنطقية مثل: (نقص الأدلة و القفز إلى الاستنتاجات بدون دليل والحكم المباشر وفق التحيزات) مما يؤدي إلى عدد من الانحيازات المعرفية التي تؤثر على التفكير والإدراك. ومنها:



  • التحيّز الإدراكي - Perception bias:


التحيّز الإدراكي هو شكل من أشكال التحيّز الذي يميل فيه الشخص لإصدار أحكام وافتراضات نمطية، غير موضوعية تعتمد على جمع بيانات ومعلومات مرتبطة بنتائج وتفسيرات مسبقة، أي أن هذه الأحكام والافتراضات يتم إطلاقها بناءً على تجارب الفرد السابقة والقيم والمبادئ التي يؤمن بها متجاهلاً أي معطيات أخرى. يؤثر التحيّز الإدراكي على إصدار أحكام تتسم بأنها غير محايدة وليست موضوعية وغير صحيحة في كثير من الأحيان، مما قد يعزز الإدراك الانتقائي (Selective Perception)، يمكن للتحيز الإدراكي أن يؤدي الى أنواع أخرى من الانحيازات المعرفية مثل الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias).


فعلى سبيل المثال، إذا طلب مدير العمل من أحد الموظفين تسليم 3 تقارير سنوية، كان أحد هذه التقارير هو (التقرير المالي) -والذي يهم مدير العمل جدا-، قام الموظف بتسليم التقارير الثلاثة مع كون جودة تقريرين ممتازة جداً أما التقرير المالي فيمكن ملاحظة ضعف جودته والاستعجال في إنجازه، يقوم المدير بالتركيز على التقرير المالي فقط -لأنه ذات أهمية له- متجاهلاً التقارير المتقنة الأخرى ليطلق أحكاما ويعزز الإدراك الانتقائي.

رغم قيام الموظف بإنجاز 3 تقارير، قام مدير العمل بالنظر إلى جزء معين من الدليل فقط (وهو التقرير المالي) فقط وإطلاق أحكام عليه.



  • الانحياز التأكيدي - Confirmation bias:


هو الميل للبحث عن معلومات وتفاسير تؤكد رأي مسبق وتتوافق مع معتقدات وافتراضات الفرد، بتجاهل كل المعلومات المناقضة والأدلة التي لا تتوافق مع افتراضات الفرد.



وعلى سبيل المثال، بافتراض وجود فرد يؤمن بأن كوكب الأرض مسطح وعند بحثه عن الحقيقة عبر استخدام الإنترنت، يقوم هذا الفرد بالبحث باستخدام الكلمات المفتاحية: "دلائل أنّ الأرض مسطحة"، لأنه يميل للبحث عن معلومات وتفاسير تؤكد رأي اتخذه سابقاً، وعوضاً عن البحث للوصول إلى استنتاج ونتيجة قام هذا الفرد بابتداء البحث بمحاولة العثور على دلائل تدعم نتيجة توصل إليها ومؤمن بها بدون أي دليل سابق. أي -قام بالبحث ابتداءً من الاستنتاج-، وفي هذه الحالة يكون مثال البحث الصحيح هو البحث بالكلمات المفتاحية: "هل الأرض مسطحة أم كروية".


وكما ذكرنا سابقاً فإن التحيز الادراكي يمكن أن يؤدي إلى أنواع أخرى من الانحيازات المعرفية مثل الانحياز التأكيدي، وكمثال على ذلك:

بالنظر لمثال مدير العمل والموظف وبعد أن قام المدير بإطلاق أحكام غير موضوعية بناء على تقرير واحد غير متكامل. -في حالة- اتخاذ المدير فكرة عن هذا الموظف بأنه سيء بابتداء التركيز على جوانبه السلبية فقط متجاهلا كل الجوانب الإيجابية بناء على تجربته السابقة المبنية على التحيز الإدراكي، تعتبر هذه الحالة تحفيز التحيز الإدراكي لتطبيق انحياز تأكيدي.


يعتقد علماء النفس بأن مثل هذه العمليات تحدث تلقائياً وقد تشير إلى عدد من الانحيازات المعرفية في علم النفس تتعلق بالتوقعات وتؤثر على الإدراك، كما تؤكد الأبحاث أن التحيزات الشخصية لمدققي الحقائق قد تؤثر على اختيارهم للبيانات التي يجب التحقق منها والمصادر المُستعانة في العملية. مما يؤدي الى وقوع المدقق في مغالطة أخرى من مغالطات الانتباه الانتقائي وهي "التقاط الكرز - Cherry picking".




ما هو الحل؟ (كيفية الوصول للحقيقة):



  • فصل الحياة العملية عن الحياة الشخصية:


تعتبر الموضوعية والحياد وعدم التحزب السياسي من السمات الضرورية التي يجب أن يتحلى بها مدقق الحقائق، وذلك لضمان نزاهة وحياد وموضوعية المقال، ولكن مثلما أشرنا سابقاً فإن مدققي الحقائق بشر! وفي النهاية يحتفظ الجميع ببعض الآراء الشخصية في بعض المواضيع.


كخطوة أولى للوصول الى الحقيقة الموضوعية، يجب على مدققي الحقائق الاعتراف بميولهم الاجتماعية والسياسية عوضاً عن نكران وجودها تماماً مع وعيهم والتزامهم الدائم بضرورة عدم تدخلها في عملية تدقيق الحقائق، وذلك يتحقق بإدراك المدقق أو الصحفي أنّ عملية تدقيق الحقائق تتبع آلية رصينة تتمحور حول وجود دليل قوي لتأكيد أو نفي أي ادعاء، ومن هذا المنطلق يُمنع منعاً باتاً إطلاق أحكام مبنية على الآراء الشخصية أو ابتداء البحث بالقفز الى استنتاج مبني على تحيزات أو اعتقادات معينة عوضاً عن ابتدائه من البحث عن دليل للوصول إلى الحقيقة.



  • العمل تحت مبادئ موحدة:


لضمان الوصول إلى الحقيقة بكفاءة، من الضروري على مدققي الحقائق اتباع مبادئ ثابتة تحول بينهم وبين أي تحيزات شخصية مثل: سياسات الشفافية وعدم التحزب، وآليات عمل محدّدة ودقيقة في التّحقق من الأخبار والمعلومات، ويجب على هذه الآليات أن تتمحور حول مبدأ وجوب إرفاق دليل بأي معلومة يتم ذكرها، والعودة إلى أصل الخبر والمصدر الأول لأي معلومة يتم التحقق من صحتها، إضافة إلى استخدام العديد من الأدوات المتاحة للتحقق من مختلف أنواع المحتوى سواء كان مقروءًا أو مرئيًا أو مسموعًا. ويجب أن يتم مراجعة هذه المبادئ والآليات بشكل دوري ومشاركتها مع الفريق للتأكيد على التزامهم بتطبيقها واتباعها. 



  • العمل ضمن فريق متنوع:


يٌقترح أن يتم تدقيق الحقائق وبالذات في سياق الادعاءات السياسية الجدلية من قبل فرق مكونة من مُدَققين أو أكثر مختلفي الآراء والخلفيات الاجتماعية والسياسية، حيث يجب على مدققي الحقائق باختلاف آرائهم ووجهات نظرهم العمل  في فريق واحد كتجسيد للتوازن، ويمكن تطبيق هذه الطريقة عبر استخدام: (تدقيق الحقائق المزدوج - Double Fact checking) وهي طريقة لمراجعة مقال تدقيق الحقائق والتأكد من خلوه من أي أخطاء عبر مراجعته بشكل كامل بتطبيق نفس الخطوات المتخذة من قبل مدقق آخر بعد تسليم المقال.


المفتاح للوصول لنتائج التفكير المعرفي -بالذات في السياق السياسي- هو تضمين ادعاءات ووجهات نظر كلا الجانبين في نفس الوقت وفي نفس التقرير، بهذه الطريقة يمكن تقليل الأخطاء الناتجة عن تضمين وجهة نظر جانب واحد فقط، حيث سيناقش مدققي الحقائق ذوي وجهات النظر المختلفة نفس الأدلة لإنتاج مقال متوازن غير متحيز لطرف دون الآخر وهذا سيعطي القدرة للقراء على الحكم على مدى إقناع حجة كل جانب والتوصل إلى استنتاج أكثر استنارة مما لو تم تقديم دليل من جانب واحد فقط.



في النهاية، يمكن تجنب التحيز الإدراكي في إصدار الأحكام التلقائية تجاه الأخرين، عن طريق استخدام مقاييس موضوعية ومحايدة، وتفسير كافة المعلومات والملاحظات المتعلقة بالآخرين كما هي وبدون أي افتراضات نمطية متعلقة بأي مجموعة او فكرة يتبناها الشخص، والتي يمكن أن تتأثر بالتحيزات الإدراكية التلقائية.


مواضيع أخرى قد تهمك