">
في إطار الجهود الوطنية والدولية الرامية لتعزيز حوكمة الإنترنت وتطوير السياسات الرقمية في ليبيا، وضمن مسار عمل استراتيجي يستهدف بناء منظومة رقمية أكثر شمولية وتوازناً، قامت مبادرة أنير بالشراكة مجتمع الانترنت في ليبيا ونخبة من المختصين في المجالين القانوني والتقني بتنفيذ سلسلة من التحليلات التقنية والقانونية حول التشريعات الرقمية السارية، باعتبارها جزءاً محورياً من مكونات سياسة الإنترنت الوطنية.

· قراءة في واقع السياسات الرقمية الليبية:

في سياق جهودها لتعزيز بيئة رقمية أكثر توازناً وشمولاً في ليبيا، قادت مبادرة أنير، وهي مبادرة مدنية مستقلة تُعنى بتطوير السياسات الرقمية والحقوق الرقمية، عملية تقييم تقنية وقانونية تناولت واقع وتحديات الفضاء الرقمي الليبي. 

ولتحقيق ذلك، استعملت أنير أداة تقييم أثر الإنترنت (Internet Impact Assessment Toolkit - IIAT)، وهي أداة تحليلية طورها مجتمع الإنترنت الدولي (ISOC) لقياس مدى توافق القوانين المحلية مع المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الإنترنت المفتوح، مثل: الاتصال العالمي، الموثوقية، الأمن، والشفافية.

اُستخدمت هذه الأداة لتحليل مدى تأثير التشريعات الرقمية الحالية في ليبيا على بنية الإنترنت، والحوكمة المؤسسية، والممارسات التقنية. هدف هذا التقييم إلى إبراز نقاط القوة والضعف في القوانين القائمة، وتقديم توصيات عملية لدعم تطوير سياسات رقمية

وطنية أكثر انسجاماً مع المعايير الدولية والمتطلبات التقنية والحقوقية الحديثة.

 

• لمحة عامة حول آلية التقييم: 

تم تنفيذ عملية التقييم على مدار عدة أشهر بين مايو وسبتمبر النصف الثاني من عام 2023 والربع الأول من 2024، من خلال عقد سلسلة من اللقاءات والمناقشات من أجل إجراء التحليلات التقنية والقانونية حول التشريعات الوطنية ذات العلاقة بالممارسات الرقمية، باعتبارها جزءاً محورياً من مكونات السياسة الرقمية الوطنية، وذلك بمشاركة خبراء قانونيين وتقنيين، وممثلين عن المؤسسات الحكومية، ومنظمات المجتمع المدني، والأوساط الأكاديمية، ونشطاء في مجال الحقوق الرقمية، لضمان شمولية التقييم وانسجامه مع المتطلبات والممارسات التقنية والحقوقية الحديثة.

 

وفي هذا الإطار شمل التقييم أربعة قوانين رئيسية تمثل عصب التشريعات الرقمية وتؤثر بشكل مباشر في مسار السياسات الرقمية في ليبيا:

1. قانون الاتصالات رقم 22 لسنة 2010 

2. قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية رقم 5 لسنة 2022 

3. قانون المعاملات الإلكترونية رقم 6 لسنة 2022 

4. قانون نظام المعلومات والتوثيق الوطني رقم 4 لسنة 1990

 

وبعد سلسلة من المراجعات التقييمية، أفضى التقييم إلى بلورة مجموعة من النقاط التي تتطلب تطويراً في الإطار القانوني، بما يواكب المتغيرات الرقمية المتسارعة والمعايير الدولية الحديثة. وفيما يلي نستعرض مقتطفات رئيسية منها: 

• أولاً: نظرة تحليلية حول قانون نظام المعلومات والتوثيق الوطني رقم 4 لسنة 1990

يُعد هذا القانون من أوائل التشريعات التي نظمت التعامل مع المعلومات الحكومية في ليبيا. وقد تضمن بالفعل أحكاماً إيجابية فيما يخص حماية سرية البيانات وخصوصية المعلومات الحكومية والخاصة. غير أن القانون يعكس في بنيته فلسفة الإدارة المركزية المغلقة في إدارة منظومة المعلومات الوطنية، حيث تحتكر السلطة التنفيذية وحدها التحكم في كافة أنشطة تجميع وتخزين وإدارة البيانات دون إشراك أي أطراف مجتمعية أو مؤسساتية أخرى.

يفتقر القانون إلى وجود آليات واضحة تتيح مشاركة المجتمع المدني، القطاع الخاص، الأوساط الأكاديمية، أو حتى الخبراء التقنيين في تطوير السياسات الرقمية المتعلقة بإدارة البيانات والمعلومات الحكومية، بما يحد من الشفافية والمساءلة في إدارة قواعد البيانات الوطنية. كما لا يتضمن نصوصاً تعزز مبدأ البيانات المفتوحة، ما يقيد فرص البحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال المبنية على استثمار البيانات غير الحساسة.

إضافة لذلك، يغيب عن القانون أي إشارة لمعايير الحياد التكنولوجي التي تضمن تحديث الأنظمة التقنية دون الاعتماد على أدوات أو نماذج محددة بعينها، فضلاً عن عدم مواكبته لمفاهيم التكامل مع المعرفات القياسية العالمية التي تمكّن من ربط النظام المعلوماتي الوطني بمنظومة الإنترنت الدولية بطريقة أكثر مرونة وفعالية.

كل هذه التحديات تؤكد الحاجة إلى تطوير هذا القانون ضمن رؤية سياساتية حديثة تضمن انفتاح النظام على المعايير الدولية المستخدمة في جمع واستخدام وحماية البيانات.

 

• ثانياً: نظرة تحليلية حول قانون الاتصالات رقم 22 لسنة 2010

يشكل هذا القانون الإطار التنظيمي الأساسي لقطاع الاتصالات في ليبيا، وقد ساهم في تنظيم خدمات الاتصالات الوطنية وضبط التراخيص والبنية التحتية للقطاع. مع ذلك، يكرس القانون نمطاً واضحاً من الإدارة المركزية عبر منح السلطة التنفيذية صلاحيات شاملة في تنظيم القطاع، بما في ذلك إصدار التراخيص، إدارة الطيف الترددي، توزيع المعرفات، واعتماد المعدات الفنية.

تفتقر السياسة التنظيمية المعتمدة في هذا القانون إلى مبدأ الحوكمة متعددة الأطراف، حيث لا يوجد نصوص تنص على إشراك الجهات غير الحكومية كالمجتمع المدني أو القطاع الخاص أو الأكاديميين في عمليات رسم السياسات أو مراقبة الأداء أو تطوير المعايير التنظيمية. كما أن الإطار الحالي لا يوفر بيئة تنافسية كافية تتيح دخول مزودين جدد أو تشجع على الابتكار التقني، الأمر الذي يعكس تحدياً حقيقياً أمام سياسات النفاذ الشامل وتوسيع البنية التحتية الرقمية.

علاوة على ذلك، تمنح بعض النصوص في القانون الجهات التنفيذية صلاحيات بتقييد أو تعليق خدمات الاتصال الدولية في حالات معينة، وهو ما قد يهدد مبدأ حرية الوصول المفتوح للإنترنت ويدخل في تعارض مع التزامات الدولة الدولية في إطار حقوق المستخدمين الرقمية.

تطوير هذا القانون سياسياً يستلزم مراجعة الإطار الحاكم لتوزيع الأدوار بين الدولة والجهات المستقلة والفاعلين الآخرين في القطاع، مع ضرورة إدماج مبادئ الحياد التقني، وضمان الشفافية، وإنشاء آليات تنظيمية مستقلة تُعزز من استقلالية قطاع الاتصالات الليبي وتواكب أفضل الممارسات الدولية في الحوكمة الرقمية.

 

• ثالثاً: نظرة تحليلية حول قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية رقم 5 لسنة 2022

يمثل هذا القانون الاستجابة التشريعية الأحدث للتعامل مع تصاعد المخاطر السيبرانية في ليبيا، حيث يسعى لمعالجة الجرائم الإلكترونية التي تستهدف البنية التحتية والأنظمة المعلوماتية والمستخدمين الأفراد. غير أن الصياغة القانونية للقانون تثير تحديات واسعة على مستوى السياسات الرقمية.

يعاني القانون من غياب تعريفات قانونية دقيقة للكثير من المصطلحات الأساسية المرتبطة بالجرائم الرقمية، ما يفتح الباب أمام توسيع التأويل الإداري للنصوص القانونية، ويهدد حرية التعبير الرقمية والنشاط المدني عبر الإنترنت. كما أن القانون يمنح بعض الجهات الأمنية صلاحيات رقابية واسعة تشمل التنصت، جمع البيانات، والمراقبة الرقمية دون اشتراط وجود رقابة قضائية فاعلة أو مراجعات مستقلة منظمة، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ سياسات الخصوصية وحماية الحقوق الرقمية.

إضافة إلى ذلك، يفرض القانون قيوداً صارمة على أدوات التشفير الحديثة ويشترط الحصول على تصاريح مسبقة لاستخدامها، وهو ما يعكس قصوراً كبيراً في تبني سياسات الحماية الرقمية التي تضمن سرية بيانات المستخدمين وتعزز ثقة الأفراد والمؤسسات في البيئة الرقمية الوطنية. القيود المفروضة على التشفير لا تنسجم مع الاتجاهات الدولية التي تعتبر أن تقوية أدوات الحماية الفنية عنصر أساسي في بناء منظومة سيبرانية موثوقة وآمنة.

كما أن غياب اللائحة التنفيذية للقانون رقم 5 لسنة 2022 الذي يعد أداة أساسية لتنفيذ هذا القانون بالشكل الصحيح، وهو ما يحتم تدخل المشرع بإصدار اللائحة التنفيذية في أسرع وقت لضمان تحقيق القانون لأهدافه.

هذه الإشكاليات تجعل من الضروري إعادة صياغة السياسات الرقمية الخاصة بالأمن السيبراني في ليبيا بما يوازن بين مواجهة الجرائم الرقمية من جهة، وضمان الحريات الرقمية وحماية بيانات الأفراد من جهة أخرى، في إطار معايير حقوق الإنسان الرقمية المعتمدة دولياً.

 

• رابعاً: نظرة تحليلية حول قانون المعاملات الإلكترونية رقم 6 لسنة 2022

نظراً لتزايد حجم المعاملات الالكترونية عبر شبكة الانترنت، أضطر المشرع بالتدخل في اصدار القانون رقم 6 لسنة 2022 بشأن المعاملات الالكترونية حيث يوفر القانون إطاراً قانونياً هاماً لتنظيم المعاملات الإلكترونية وتعزيز خدمات الحكومة الرقمية في ليبيا.

لكن رغم اعتباره خطوة في الاتجاه الصحيح من حيث الاعتراف القانوني بالمعاملات الرقمية، إلا أن مضمونه يواصل تبني منهج الإدارة المركزية والرقابة المباشرة في إدارة الخدمات الرقمية والمعاملات الإلكترونية.

يفرض القانون قيوداً بيروقراطية على استخدام التشفير، ويشترط ترخيصاً مسبقاً لأدوات الحماية الرقمية، ما يضعف من بيئة الثقة الرقمية المطلوبة لحماية أمن المعاملات وحفظ سرية البيانات في الأنشطة التجارية والخدمية الحكومية. كما يعتمد القانون على نصوص أخلاقية وقيمية فضفاضة تخضع للتأويل الإداري، وهو ما قد يؤدي إلى تقييد حرية تدفق المعلومات والمحتوى الإلكتروني المشروع.

الأكثر تحدياً في الإطار السياساتي لهذا القانون هو غياب أي بنية مؤسسية تسمح بمراجعة السياسات وتطويرها بشكل تشاركي مع أصحاب المصلحة من القطاعات المختلفة. وبذلك تفتقر بيئة الحكومة الرقمية في ليبيا للمرونة التي تسمح بالتطور المستمر، وبتبني المعايير التقنية الدولية المعتمدة في أمن المعاملات الإلكترونية وحماية بيانات المتعاملين.

تطوير هذا القانون يتطلب إدماج أوسع لمبادئ الحوكمة الرقمية المرنة، وتمكين مؤسسات مستقلة للمراجعة والتطوير، بما يحقق التوازن بين متطلبات الأمان السيبراني وحماية خصوصية بيانات الأفراد في ذات الوقت. 

• نحو تحديث سياسات رقمية تشاركية ومتوازنة

أظهرت نتائج هذا التقييم أن الإطار التشريعي الرقمي في ليبيا لا يزال يعتمد بشكل كبير على مركزية صنع القرار وغياب الحوكمة التشاركية، مما يحد من قدرة السياسات الرقمية على مواكبة التطورات التقنية والحقوقية المتسارعة عالمياً. كما تعاني البيئة القانونية الحالية من ضعف القواعد الصريحة المنظمة لحقوق المستخدمين في الفضاء الرقمي، سواء من حيث حماية الخصوصية أو ضمان حرية التعبير والنفاذ العادل للمعلومات.

إن تطوير السياسات الرقمية في ليبيا لم يعد خياراً، بل يمثل اليوم أولوية إصلاحية جوهرية، تقتضي بناء إطار سياساتي مرن، يوازن بين حماية الأمن السيبراني من جهة، وضمان الحقوق والحريات الرقمية من جهة أخرى، مع توفير بنية مؤسساتية تتيح المشاركة الفعالة لمختلف الأطراف الوطنية والدولية في صياغة وتحديث السياسات بشكل مستمر.

 

• التوصية الختامية 

القانون

التحدي الرئيسي

توصيات السياسات الرقمية

قانون نظام المعلومات والتوثيق الوطني رقم 4 لسنة 1990 ⬅

مركزية إدارة المعلومات وغياب الحوكمة التشاركية

o      تطوير آلية حوكمة متعددة الأطراف لإدارة البيانات.

o      فتح الوصول للبيانات غير الحساسة لدعم البحث والابتكار.

o      اعتماد معايير الحياد التكنولوجي والتكامل مع منظومة الإنترنت العالمية.

 

قانون الاتصالات رقم 22 لسنة 2010 ⬅

مركزية تنظيم القطاع وغياب التنافسية

o      إدماج القطاع الخاص والمجتمع المدني في رسم السياسات.

o      إنشاء هيئة تنظيم مستقلة للاتصالات.

o      حماية مبدأ النفاذ المفتوح ومنع القيود التعسفية على الوصول للإنترنت.

o      تبني سياسات حياد تقني شفافة.

 

قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية رقم 5 لسنة 2022 ⬅

غموض قانوني وصلاحيات رقابية واسعة دون ضمانات

o      إعادة تعريف المصطلحات القانونية بشكل دقيق.

o      فرض الرقابة القضائية المستقلة على صلاحيات المراقبة.

o      تحرير استخدام أدوات التشفير دون قيود مسبقة.

o      تبني سياسات حماية خصوصية المستخدم وفق المعايير الدولية.

 

قانون المعاملات الإلكترونية رقم 6 لسنة 2022 ⬅

مركزية إدارة الحكومة الرقمية وقيود على الحريات الرقمية

o      إزالة متطلبات ترخيص التشفير في المعاملات.

o      ضبط النصوص الأخلاقية الفضفاضة التي قد تقيد حرية المحتوى.

o      إنشاء آلية مؤسسية لمراجعة وتحديث السياسات بشكل تشاركي.

 

 

تُشكّل مخرجات هذا التقييم التقني والقانوني، الذي تولّت تنفيذه مبادرة أنير بالشراكة مع مجتمع الانترنت في ليبيا وبمساهمة مجموعة من الشركاء الوطنيين المعنيين ونخبة من المختصين في المجالين القانوني والتقني، قاعدة معرفية أساسية ستُوظَّف في دعم النقاشات الوطنية الجارية حول تطوير سياسات الإنترنت في ليبيا.

وتأتي هذه التوصيات كمدخل عملي لدعم صناع القرار والمؤسسات المعنية في صياغة إصلاحات تشريعية أكثر اتساقاً مع المعايير الدولية للحوكمة الرقمية وحقوق الإنسان الرقمية، بما يساهم في بناء منظومة سياسات رقمية أكثر مرونة وتوازناً، ويؤسس لمسار تحولي يعزز جاهزية ليبيا للانخراط الآمن والمنتج في الاقتصاد الرقمي العالمي. 

مواضيع أخرى قد تهمك