في هذه الديستوبيا، تعلم الشركات الكبرى أو "الأخ الأكبر" الكثير عن مستخدميها، وتستفيد من ما تعرفه وتجني أموالًا منه. يقال إنّك حينما لا تدفع ثمن السلعة فاعلم أنك السلعة، يقدَّر حجم سوق البيانات الضخمة (Big data) بـ64 مليار دولار أمريكي، ومن المتوقَّع أن يصل إلى 103 مليار دولار عام 2027.

يشبه الأمرُ العيش في ديستوبيا رقميّة؛ الكثير من الأعين تراقبنا، والكثير من الآذان التي تسترق السمع، نملك جدرانًا، لكنَّ اللصَّ يتناول الغداء معنا على الطاولة. خطانا تُتَعقّب، وحياتنا تُستباح، و"الأخ الأكبر" يراقبنا من فوق ويتلصّص على حياتنا ويجمع في مذكّراته المعلومات عنّا... هل من مفر؟

هذا الشارع ب-125، تسكنه 4 عائلات. في كلّ صباح يأتي جامع المعلومات ليأخذ صندوق المعلومات الموضوع أمام باب بيوت هذه العائلات، تتسرّب المعلومات إلى الصندوق من كلّ فردٍ من أفرادها، كل معلوماتهم الشخصيّة، تحرّكاتهم، ما يبحثون عنه، ما يحبّون وما يكرهون، ومع من يتحدّثون، وما ينوون شراءه، وأكثر من ذلك.

صندوق العائلة رقم 4 فارغ؛ لا معلومات تتسرّب فيه. خاناتٌ فارغة، ويمثّلون أرقامًا دون أيّة تفاصيل، لا يعلم عنهم الأخ الأكبر شيئًا وهذا يقضُّ مضجعه. يمكن لجامع المعلومات ملاحظة الفرق: لا تمتلك الأسرة رقم 4 هواتف ولا اتصالًا بالإنترنت... فهل علينا العيش مثل العائلة رقم 4؟

يمكن لجامع المعلومات معرفة كل شيء تقريبًا عن هذه العائلات -عدا عائلة رقم 4-؛ يعلم الجامع الآن أنَّ العائلة رقم 1 تبحث عن غسّالة جديدة، إيطاليّة، ومتوسّطة السعر، فتنهال الإعلانات عليهم. ويعلم أنَّ العائلة رقم 2 منقسمة بحسب توجّهاتها السياسيّة إلى مؤيِّدين ومعارضين، فتحاول جهة ما بيعت لها بياناتهم توجيههم نحو رأي سياسيّ معين. العائلة رقم 3 كانت مصدرًا جيدًا للبيانات، فهي تتألّف من 9 أفراد، لدى كل منهم هاتف واتصالٌ بالإنترنت، وحسابات على مواقع التواصل، ويحبُّون ألعابًا على شاكلة "اعرف من أنت من شخصيّات الرسوم المتحركة"... "صيدٌ سهل"، قال عنهم جامع المعلومات.

في هذه الديستوبيا، تعلم الشركات الكبرى أو "الأخ الأكبر" الكثير عن مستخدميها، وتستفيد من ما تعرفه وتجني أموالًا منه. يقال إنّك حينما لا تدفع ثمن السلعة فاعلم أنك السلعة، يقدَّر حجم سوق البيانات الضخمة (Big data) بـ64 مليار دولار أمريكي، ومن المتوقَّع أن يصل إلى 103 مليار دولار عام 2027. 

تمثّل بياناتنا الشخصية ووجودنا بشكل عام على الإنترنت جزءًا من البيانات الضخمة (Big data). وعلى الرغم من أنَّ شركات التقنية تؤكّد أنّها لا تبيع بياناتنا الشخصية، فهي تتربح منها، حيث تساعد معلوماتنا الشخصيّة وتفاعلاتنا على مواقع شبكات التواصل وخارج مواقعها في توجيه إعلانات أثناء استخدامنا لها. واستخدمت البيانات الشخصيّة سابقًا في توجيه وتغيير الرأي العام، وكامبردج أناليتيكا خير مثال على ذلك.

تعتبر فضيحة كامبردج أناليتيكا من أبرز الأحداث التي تبرهن على أنَّ بياناتنا ليست بأمان كافٍ في هذه الديستوبيا، ويمكن أن لا تستخدم فقط في تحديد إعلانات، وإنما الأمر أكبر من ذلك، حين حدث واستخدمت هذه البيانات في تغيير مصير دول كبرى، مثل أمريكا وبريطانيا، حيث ساعدت الحملات الانتخابية المعتمدة على تحليلات كامبردج أناليتيكا في وصول ترمب إلى السلطة.

>> ما الذي يوجد في صندوق جامع المعلومات؟

تعرف شركات التقنية الكبرى الكثير عنا، على سبيل المثال لا الحصر، يعرف الأخ الأكبر عنّا: أسماءنا، أعمارنا، أجناسنا، تواريخ ميلادنا، أين درسنا، أماكن عملنا، ما نبحث عنه، اهتماماتنا، ما نشاهده، صورنا المنشورة على الشبكة، كم نستغرق من وقت متصفّحين الإنترنت، وحتى كم نستغرق من وقت محدّقين في صورة ما... الأخ الأكبر لم يسرقها، بل نحن من وضعناها في الصندوق.

يمكن للشركات التقنية الكبرى -وتحديدًا هنا نتحدث عن فيسبوك- أن تتابعنا حتى خارج فيسبوك، فمثلًا عند الدخول إلى موقع لبيع ملابس، سيُعلِم هذا الموقع فيسبوك بزيارتك له، وهذا ما سيساعد فيسبوك على عرض المزيد من الإعلانات من نفس الفئة لك، وهؤلاء هم من تسمّيهم فيسبوك بـ"شركائها"، وهو ما حدث لأب العائلة رقم 1 الذي بحث عن "غسالات" في محرك بحث ودخل عدّة مواقع بيع، فانهمرت عليه الإعلانات في فيسبوك. 

قد يكون من الصعب الطلب من الناس أن يعيشوا مثل العائلة رقم 4، وقد يبدو هذا الطلب ضربًا من الجنون أصلًا، لكنَّ الجنون الحقيقيَّ هو أن نفتقد لحريتنا وخصوصيتنا. إلى متى سيستمر جامع المعلومات في المجيء وأخذ بياناتنا منّا؟ بياناتنا التي نحن من وضعها في الصندوق وأعطاها؟

مواضيع أخرى قد تهمك