كلك .. كلك ... أصوات النقر على الكيبورد
تتسلل أطراف اصابعي بين ازرار لوحة المفاتيح ... وبكل حماس أضغط زر الـEnter وكأن مستقبلي يعتمد على ذلك!
نعم، انها "الويكيند"، وأخيراً الراحة بعد أسبوع متعبِ من العمل الشاق … وكما جرت العادة، هذا يعني لقائي الأسبوعي مع مسلسلي المفضل، ولكن يراودني احساس بأن حلقة هذا الأسبوع ستكون أكثر تشويقاً من أي حلقةِ مضت.
فهل هذا ما سيحدث حقاً؟
....
بدأ الأمر كله عندما تحصلت على فرصة عمل خارج البلاد، مزيج من الفرحة العارمة والخوف من المجهول، بلد جديد ... عالم جديد … لتنهمر التوصيات والتنبيهات من الأصدقاء والعائلة: "اعتمد على نفسك" … "لا تثق بالغرباء" … "لا تضيع وقتك" … "إياك وإهمال عملك" …
لكوني (دخيل) او (مستجد) على مجتمع غريب بدأت الهواجس تراودني كل ليلة، قصص العصابات وتُجار المخدرات والجماعات المتطرفة، و"عشرة خطوات للهروب من عملية سطو مسلح"، هكذا كانت العناويين التي قررت خوارزميات اليوتيوب اقتراحها عليّ في الأيام الأخيرة من السفر …
فهل سأغدو الضحية؟ أم سأعيش حلمي الذي طالما سعيت لأجله؟
...
اصوات الحشود وضواء السيارات، الازدحام المرتب تحت ناطحات السحاب، كلُّ ذاهب لوجهته وعمله، وببساطة هكذا كانت ... الصدمة الحضارية، من لحظة دخولي الى المطار والمرور على آلات الخدمة الذاتية الى عند اقتطاع تذكرة الحافلة والنزول عند محل سكني.
لقد جهزت نفسي كثيراً للتعامل مع شتى المواقف، كيفية التصرف والحذر مع من اتعامل والانتباه لمقتنياتي الثمينة وجواز سفري وحقيبتي، وغيره من الاحتياطات الواجبة على أي انسان، ولكن كل ما أدهشني هو النظام والترتيب والقواعد، سيادة القانون فوق كل شيء!
يآه! تتغمدني الراحة كلما نظرت من هذه الزاوية، فحقي محفوظ هنا ولربما أكثر من بلدي الأم.
ومع مرور الأيام، وبالتجربة والاحتكاك مع المجتمع، بدأت التأقلم مع هذا العالم الجديد وأصبحت جزءً منه، أؤدي عملي وادفع ضرائبي وكلّ على حال سبيله، لا مجال للخطأ القانون في كلّ مكان … يمكنني الآن ان اريح اعصابي قليلاً.
أو هذا ما اعتقدته؟
...
كلك .. كلك ... أصوات النقر على الكيبورد
العطلة الأسبوعية، ولقاء آخر مع حلقة جديدة ... ولكن؟
windows 10، نافذة المتصفح تتصدر المشهد وبها 3 نوافذ تبويب
بعد التأكد من حسابي البنكي (كالمعتاد بسبب طبيعة عملي فإنني اراقب حسابي البنكي افتراضياً عبر المتصفح حتى أيام العطلة) تصفحت موقع الـ”Facebook” لمدة من الزمن وتبادلت التعليقات المضحكة ورسائل الشوق والاطمئنان مع عائلتي، وبعد ذلك أخذتني فأرة الكمبيوتر هذه المرة الى منتداي المعتاد الذي أشاهد عليه حلقات مسلسلي المفضل.
وأنا أنتظر نافذة تحميل الحلقة باغتتني هذه الرسالة فجأة:
تنبيه بوجود فيروس من مايكروسوفت! تم اختراق معلوماتك! اتصل بخدمة العملاء فوراً
لا تقم بإغلاق هذه النافذة او إعادة تشغيل الكمبيوتر، نظامك قام بملاحظة نشاط مريب يمكن له الحاق الضرر بالجهاز وتتبع معلوماتك الشخصية والمالية!
قم بالإتصال بنا "مايكروسوفت" على الرقم الآتي :
ارتعبت في اللحظات الأولى! ثم قلت مطمئناً نفسي:
"لابد انها من مزايا استعمالي نظام Windows بمفتاح تشغيل أصلي! نعم! الحماية من الفيروسات، ولا شيء مريباً أصلا فهذه النافذة تحمل نفس شكل نظامي وتدرج الألوان وتعرف نوعية متصفحي"
"وفي النهاية هذا مجرد رقم هاتف فمالذي يمكن أن يحدث"؟
معميّ البصيرة فالقانون في كل مكان، وبكل ثقة اخذت هاتفي واتصلت بالرقم الظاهر على الشاشة:
- مرحباً بك في خدمة الدعم الفني الخاصة بمايكروسوفت، كيف يمكن لنا ان نساعدك؟
- مرحباً، اعاني من مشكلة! ظهر لي تنبيه بخصوص فيروس يستهدف الجهاز الخاص بي وانا أتصفح الويب.
- يبدو بأنك تعاني من مشكلة في الأمان سيدي، قبل تحويلك للقسم المختص يجب عليّ التأكد من هويتك، هل يمكنني الحصول على اسمك الثلاثيّ؟ عنوان سكنك؟ ...
هكذا رد علي موظف الإستقبال الخاص بالشركة، وبالفعل، نفس الاجراءات الروتينية المعتادة، ليست وكأنها المرة الأولى لي في مكالمة مع مركز اتصالات! ولكن بالفعل هذه المكالمة جعلتني أشعر وكأنني في أيادي أمينة.
وبعد التأكد من "معلوماتي الشخصية" وبأنني لا انتحل هوية أحد وأن المعلومات "متطابقة" مع قاعدة بيانات الشركة … وعلى انغام موسيقى الإنتظار قام الموظف بتحويلي الى القسم الخاص بالأمن.
...
طمأنني الموظف بأنه تصلهم مئآت الاتصالات يومياً وبأن هذا فيروس منتشر في الآونة الأخيرة، وأعطاني بعض الخطوات التي يجب علي تطبيقها حتى أعطي الإذن لهذا الموظف للتحكم عن بعد بجهازي وإصلاح هذه المشكلة.
تمت مشاركة مفتاح التحكم بالجهاز عن بعد مع هذا الموظف اللطيف، وبينما يقوم بـ"معالجة المشكلة" وتنزيل البرامج اللازمة كان يشرح لي عن كل عملية يقوم بها، من تشغيل برامج مكافحة الفيروسات وتنظيف النظام وترتيب ملفاته واستعمال غيرها من البرامج وأنا قيد الانتظار.
وبعد الانتهاء من كل هذه الاجراءات طلب مني التأكد من معلومات معينة تخص (حسابي وجهازي) كوني اتصلت بخدمة الدعم الفني، وبعدما ذكر أغلب البيانات بشكل صحيح بدأ يتلعثم عندما طلب التأكد من الارقام السرية لبطاقتي الإئتمانية.
ياله من مسكين قلت في نفسي، ولأزيح عنه عبئ ذكر الثلاث أرقام اخبرته: "321".
- شكرا جزيلاً سيدي، لا تقلق، أموالك وحساباتك بأمان، لا داعي لهذا الإجراء سنتكفل به نحن!
هكذا اخبرني عندما سألته عن ما ان احتاج الى تغيير كلمات المرور الخاصة بحساباتي الشخصية والمصرفية.
...
لحظة! هل قمت بإعطائه الأرقام السرية الخاصة ببطاقتي المصرفية الآن؟ ولكن هو لم يطلبها قط!
وهنا أدركت انني وقعت في عمل في قمة الإحترافية فعلاً، إحتيال من العيار الثقيل!
صفحة ويب مصممة بدقة لتشبه تنبيهات النظام وقادرة على التعرف على نوعية جهازك ومتصفحك، انتحال هوية مركز اتصالات بإحترافية، مزيج من الهندسة الإجتماعية مع استعمال البرمجيات الخبيثة!
كل معلوماتي الشخصية تم تجميعها بحُجّة "التأكد من بيانات العميل"، كذلك بياناتي المصرفية تمت سرقتها عندما تم الولوج الى جهازي المحمول، اما بالنسبة لكلمات المرور فأنا متأكد أنه تم الاستحواذ من قبل احدى البرامج الذي تم تنزيلها من قبل "اللطيف".
وفي النهاية الأمر الوحيد الذي يحول بين سرقة أموالي وعملي (الأرقام السرية للبطاقة)، قمت بإعطائها بنفسي!
...
بكل ارتعاب وخوف، ضغطت زر الـEnter لإنهاء إتصال الإنترنت، ولكن هذه المرة فإن مستقبلي فعلاً يعتمد على ذلك!
بدأت الإشعارات تنهمر على هاتفي بمحاولات شراء بإستخدام بطاقاتي، فوجدت نفسي في سباق مع الزمن!
أسرعت نازلاً الى أول ماكينة صراف آلي بالشارع، وقمت بسحب كل ما تبقى من مدخرات دفعة واحدة … على الأقل حظيت بفرصة لإسعاف ما تبقى ...
عدت الى منزلي اجر اذيال الخيبة، "يالها من عطلة نهاية اسبوع مشوقة" …
قمت بالاتصال بأخي، وحدثته عن تفاصيل المجريات، وأكد لي أنه كنت ضحية عملية احتيال تُعرف بالـ"الخداع الالكتروني او الاحتيال المزدوج"؟
قمت بتغيير كل كلمات المرور الخاصة بي وبإلغاء تفعيل البطاقات المصرفية وإصدار أخرى غيرها، وكذلك مسح شامل لكافة بيانات جهازي الرئيسية خوفاً من بقايا أي برنامج خبيث تم تنصيبه من قبل "اللطيف".
...
التوصيات والتنبيهات والهواجس .. لربما كنت كثير الحرص جسدياً في مجتمع غريب من انواع السرقة والاحتيال التقليدي وما يُتلى علينا من قصص قد لا تمثل 5% من الواقع الذي عشته … كل هذا النظام والترتيب والاعتماد على القانون ازاح تركيزي عن الانتباه للجانب الافتراضي.
فلو كنت قليل الحرص في هذا العالم الذي لا يكاد ان يقل اهمية عن عالمنا الحقيقي، العالم الذي تكون فيه كافة معلوماتي على بعد بضعة نقرات …
السرقة والنصب والاحتيال وغيرها من الجرائم لا تقتصر على العالم الفيزيائي المحسوس فقط، عواقب إهمال سلامتنا الرقمية وخيمة وقد تصل الى ضياع أعمال ومستقبل أشخاص بالكامل ...
مواضيع أخرى قد تهمك
-
2022/11/17تم اختراق معلوماتك! اتصل بخدمة العملاء فوراً*كلك .. كلك* ... أصوات النقر على الكيبورد تتسلل أطراف اصابعي بين ازرار لوحة المفاتيح ... وبكل حماس أضغط زر الـEnter وكأن مستقبلي يعتمد على ذلك! نعم، انها "الويكيند"، وأخيراً الراحة بعد أسبوع متعبِ من العمل الشاق … وكما جرت العادة، هذا يعني لقائي الأسبوعي مع مسلسلي المفضل، ولكن يراودني اح
-
2022/01/13مش مهم: أثر بياناتك غير المهمة"أنا أمثّل النسخة الرقميّة منك، يمكنك أن تعتبرني حزمةً من البيانات التي ترميها في العالم الافتراضي طوال الوقت، أثناء تصفّحك لمواقع التواصل الاجتماعي أو في خضمّ بحثك عن معلومة ما في قوقل، أنتَ توزّع البيانات عنك هنا وهناك طالما أنّ هاتفك معك، وأنا، يا من لست صديقي، هو هذه البيانات.
-
2021/09/18جامع البياناتفي هذه الديستوبيا، تعلم الشركات الكبرى أو "الأخ الأكبر" الكثير عن مستخدميها، وتستفيد من ما تعرفه وتجني أموالًا منه. يقال إنّك حينما لا تدفع ثمن السلعة فاعلم أنك السلعة، يقدَّر حجم سوق البيانات الضخمة (Big data) بـ64 مليار دولار أمريكي، ومن المتوقَّع أن يصل إلى 103 مليار دولار عام 2027.