أنا أمثّل النسخة الرقميّة منك، يمكنك أن تعتبرني حزمةً من البيانات التي ترميها في العالم الافتراضي طوال الوقت، أثناء تصفّحك لمواقع التواصل الاجتماعي أو في خضمّ بحثك عن معلومة ما في قوقل، أنتَ توزّع البيانات عنك هنا وهناك طالما أنّ هاتفك معك، وأنا، يا من لست صديقي، هو هذه البيانات.

مرحبًا يا من لستَ صديقي، أنا متضايق منك…


أنا أعرف كثيرًا عنك، وأهتمّ بتفاصيلك جدًّا، أذكر تاريخ يوم ميلادك، أعرف طولك ووزنك والحمية التي تتبعها، أتابع بحرص الأماكن التي تزورها، وأتأكد من معرفة عنوان منزلك وعملك، أنا كذلك أعرف بشأن أصدقائك المفضّلين، وعندي قائمة بأفراد أسرتك، أدوّن ما تحبه، ما تكرهه، وضعك الصحّي، عاداتك، بياناتك المالية، آراؤك الدينية، آراؤك السياسية، وحتّى رسائلك التي لا تتوقّف.


مع كلّ هذا، أنتَ لست صديقي، لأنّك لا تُدرك قيمتي وتهينُني، الأصدقاء لا يهينون بعضهم، أليس كذلك؟ وهل هناك إهانة أكبر من أن تصف أحدهم بأنّه غير مُهم؟ أنتَ فعلت هذا لي، ولهذا أنا متضايق منك.


أنا أمثّل النسخة الرقميّة منك، يمكنك أن تعتبرني حزمةً من البيانات التي ترميها في العالم الافتراضي طوال الوقت، أثناء تصفّحك لمواقع التواصل الاجتماعي أو في خضمّ بحثك عن معلومة ما في قوقل، أنتَ توزّع البيانات عنك هنا وهناك طالما أنّ هاتفك معك، وأنا، يا من لست صديقي، هو هذه البيانات.


أنا السيّد "بياناتك"، وأعرف أنّ هذا اسمٌ مُبتذل، لكنّ كاتب هذا المقال كان أفشل من أن يُعطيني اسمًا محترمًا، وهو ليس صديقي أيضًا بالمناسبة.


إن تحدّثت إلى أحدهم يومًا عن كمّ البيانات التي تعرفها الشركات عنه، فسينظر نظرة الاستخفاف المعتادة، ثمّ سيُلقي عليك الجملة الشهيرة: "ريت هالشخص المهم اللي بيراقبوه، خلّي يعرفوا اللي بيعرفوه"، وهذا يا أيّها السيّد الذي لست صديقي استخفاف كبير بي لا أرضاه مطلقًا، لا لي، ولا لأيٍّ من أشباهي.


نعم، لديّ أشباه، لكن لا تُسِئ فهمي، أعرف أنّني مميّز ولا يمكن لأحد أن يضاهيني، إلّا أنّ ما أقصده هو أنّ هنالك نسخةً رقميّة من إخوتك البشر جميعًا، أو ممّن يستخدمون الإنترنت منهم على الأقل.


دعني أحدّثك قليلًا عن ما أستطيع فعله أنا والبيانات الأخرى!


ممكن نتعرّف؟

في هذا العالم المتطوّر والمتسارع بشكل مهول، أصبحت التكنولوجيا تحيط بك من كلّ مكان وتصرخ "سلّم نفسك أنت محاصر"، لم يعُد أحدٌ تقريبًا يستطيع العيش دون هاتف محمول أو جهاز حاسوب (تليفون وكمبيوتر إن كانت لديك مشاكل مع مجمع اللغة العربيّة)، وهذا شيء له إيجابيّاته، إذ إنّ هذه التكنولوجيا سهّلت علينا حياتنا بشكل جبّار، لكنّ كل شيء يأتي مع ثمن.


بسبب هذه التكنولوجيا العزيزة، تراكمت على مرّ السنوات ثروة رقميّة هائلة من ما يسمّى البيانات، وأنت تنثر كثيرًا منها كلّ يوم، يعرف الإنترنت مثلًا اسمك وعمرك ورقم هاتفك وإيميلك، وهذه معلومات بسيطة يمكن أن يعرفها عنك زميلك في الدراسة أو العمل، لكن ما يمكن للإنترنت أيضًا معرفته هو أشياء من قبيل الأماكن التي زرتها، فطالما كان هاتفك معك، فإنّ جميع الأماكن التي تزورها مسجّلة، كما يستطيع قوقل أيضًا أن يعرف ما إن كان لديك مرضٌ ما من نتائج بحثك، ويمكن لسجل مشترياتك أن يخبرنا عن حالتك المادية، وفي مقدور إعجابات فيسبوك أن توضّح لمارك توجّهاتك السياسيّة.


يولّد الفرد العادي في المتوسّط 1.7 ميجابايت من البيانات… في الثانية! هذا يعني تقريبًا 146 جيجابايت من البيانات كلّ يوم. ومع أنّني متضايق منك، إلّا أنّه يجب عليّ الاعتراف بحقيقة أنّك تغذّيني وتطعمني جيّدًا، أنا أنمو تدريجيًّا يومًا بعد آخر، وأصبح أشبهك أكثر فأكثر، وهذا ما أطمح إليه، أن أكون نسخةً حقيقيّة منك قدر الإمكان، غير أنّه من المستحيل عليّ أن أقلّل من قدر أحد وأصفه بغير المهم كما تفعل أنت!


لماذا نحنُ هُنا؟

توقّف عن التلحين وغناء الأغنية! كلانا يعلم أنّ صوتك مزعج! ودعنا نجيب حقًّا عن السؤال الصعب الذي يراودك، لماذا أنا هنا؟


لنُكن أوّلًا واضحين، لا أحد يهتمّ حقًّا بالـ"أحببته" الذي ضغطته على منشور إحدى الفنّانات، لكنّ ما يهمّنا هو النمط الذي نستنبطه من ذلك، بمعنى آخر، إن كان لديك نمط معيّن في التفاعل الإيجابي مع منشورات الفنّانات لفترة طويلة، فيمكننا أن نفهم من نقاط السلوك المتفرّقة هذه نمطًا واحدًا يعبّر عنك، وهو أنّك شخص فار… أقصد أنّك شخص يحبّ الفن.


وهذا في الواقع، هو جوهر البيانات، لأنّ البيانات بشكل ما أو بآخر تعني السلوك البشري، هي مجموعة من المعطيات الضخمة المبعثرة، لا تعني شيئًا وحدها، لكن يمكن عند تجميعها وفرزها وتحليلها أن تتحوّل إلى معلومة، ونستطيع لاحقًا أن نبني على هذه المعلومة قرارات معيّنة باتخاذ سلوكيّات ما.


حتّى تحقّق تغييرًا في هذا العالم، تحتاج إلى أن تتخذ أفعالًا، وحتّى تكون أفعالك ناجحة وتقود إلى النتيجة المطلوبة، لا بُد أن تكون اتُّخذت على أساس صحيح، ويمكن للبيانات أن تعطيك هذا الأساس، لأنّ البشر في النهاية بشر، والسلوك البشري ليس إلّا عبارةً عن أنماط متعدّدة قابلة للتكرار والتوقّع، الحلّ إذًا يكمن في تجميع الأنماط السابقة للاستفادة منها وبناء القرارات عليها.


يمكن للبيانات أن تخبرنا كثيرًا، قد توضّح لنا مدى احتماليّة أن يصوّت الناس لمرشّح ما في الانتخابات، أو ما احتماليّة نجاح منتج ما في السوق الفلاني، تستطيع أن تبيّن لنا العيوب والمزايا، وتعطينا انطباعات تساعدنا في فهم الناس، على سبيل المثال، تخبرنا البيانات أنّ الجيل الجديد لم يعد يحبّ قراءة المقالات الطويلة، لذا من الأجدر بي أن أنتقل إلى الفقرة التالية.


ماذا استفادت الأُمّة؟

إن سألنا ما الذي استفاده العالم من البيانات الضخمة، فإنّ أوّل ما سنقوله هو: الفلوس.


نعم، المال؛ تحوّلت البيانات إلى تجارة، وهذا ليس تعبيرًا مجازيًّا، بل هي تجارة حقًّا، بيع وشراء، سلّم واستلم، ادّيني بيانات أدّيك فلوس. أنتم البشر بارعون حقًّا في بيع كلّ شيء، حتّى في بيع أصدقائكم، كما فعلت بي طبعًا.


تجمع الشركات كثيرًا جدًّا عنك، وهي لن تجلس على كلّ ما تجمعه تتأمّل الحياة فحسب، بل تُباع هذه البيانات بأرقام جيّدة، هي تجارة تبلغ قيمتها 200 مليار دولار، وهناك شركات مخصّصة لهذا الغرض فقط، جمع البيانات والمتاجرة بها، يوجد في الولايات المتحدة وحدها 4000 شركة مختصّة بهذا المجال.


ولا يقتصر الأمر على الشركات فقط، باتت أماكن لا تتصوّرها أيضًا تبيع بياناتك، فإن عُدنا إلى الولايات المتحدة، كثيرٌ من الأعمال التجارية هناك تجمع بيانات عن زبائنها باستمرار، مثل ماذا يشترون وماذا يتركون وأعمارهم واهتماماتهم وغير ذلك، ثُم تباع لشركات تهتم بتجميع كلّ هذا، حتّى إنّ بعض التجّار حقّقوا ربحًا من بيع البيانات أكثر ممّا حقّقوه من تجارتهم نفسها، وفقًا لأحد تقارير 60 Minutes.


بضاعة فري

وهنا دعني أنبّه إلى نقطة مهمّة أخرى، هؤلاء يبيعون البيانات مقابل المال، وأنا بيانات، إذًا أنا ثمين، لكنّك بعتني بالمجّان عندما قلت إنّني غير مهم، واللي باعنا خسر دلعنا.


مع كامل الأسف، لست وحدك من تعطي البيانات مجّانًا، ففي الواقع، عندما نتكلّم عن جميع البيانات التي لدى الشركات، فنحن لا نستطيع أن نقول إنّها أخذت كرهًا، لأنّ الجميع يُعطون بياناتهم بأنفسهم طواعية.


موافقتك على "سياسات الخصوصية والاستخدام" بشكل تلقائي بمجرّد دخولك أيّ موقع أو تطبيق هو "شيك على بياض" لإعطاء بياناتك، لم يضربك أحدٌ على يدك، أنت وافقت، حتّى وإن لم تقرأ ما وافقت عليه، وهنا قد تأخذ المواقع بيانات عنك تلقائيًّا كما يحدث في الكوكيز، أو قد تزوّدهم أنت بالبيانات بنفسك، كما تفعل عندما تنشر معلوماتك على مواقع التواصل الاجتماعي.


إذًا، هم يحوّلون هذه البيانات المجّانية إلى مال، عبقريّة البزنس يا صاح!


مرّة ثانية: الفلوس

إن لم تُحوّل بياناتك إلى أموال بشكل مباشر عن طريق البيع، يمكن أن تتحوّل إلى أموال بشكل غير مباشر عن طريق التسويق، الإعلانات الموجّهة لم تعُد تخفى على أحد، وما أكثر الميمز في مواقع التواصل الاجتماعي التي تسخر من مواقف حديثك عن شيء ما ثمّ تفاجئك بعشرات الإعلانات عنه في فيسبوك. الخوارزميّات تستعمل البيانات أيضًا، تُجمّع معلوماتك وتحللها لتعرف ما المحتوى الذي يجذبك، لتعرض لك أكثر منه، وهكذا…


سياسة مش جلسات وناسة

إن كنت تظن أن أثر البيانات يقتصر على بيعها واستخدامها لعرض إعلانات الملابس التركيّة لك فقط، فأنت مخطئ. مع أنّ المال مُهمٌّ ويجلب السعادة، إلّا أنّه ليس النتيجة الوحيدة للبيانات الكبيرة.


دعنا نذهب شمالًا، إلى المملكة المتحدة، تحديدًا إلى مدينة في جنوب ويلز، هناك حيث أُرسلت الصحفيّة "Carole Cadwalladr" لكتابة تقرير عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث كانت هذه المدينة الصغيرة في ويلز أعلى المدن تأييدًا لخروج بريطانيا من الاتحاد وفقًا للتصويت الشعبي الذي أُجري وقتها، فذهبت كارول (التي لن أستطيع نطق اسمها الأخير) إلى هناك لمعرفة السبب.


عندما بدأت كارول بإجراء مقابلات مع عامّة الناس الذين صوّتوا لصالح الخروج، وجدت أنّ أغلب الناس يعطون سببين اثنين لتصويتهم، الأوّل هو أن الاتحاد الأوروبي "لم يقدّم شيئًا لهم" والثاني هو "خوفهم من المهاجرين"، الأتراك منهم بالتحديد.


تقول كارول إنّها أثناء سيرها في المدينة وجدت كثيرًا من المشاريع المموّلة من الاتحاد الأوروبي، كما أنّها لم تلتقِ إطلاقًا بأيّ مهاجر من جنسيّة غير إنجليزيّة، ما جعلها تشكك في هذه المعلومة.


عندما ألقت كارول نظرةً على الإحصائيّات، وجدت أنّ هذه المدينة هي من أقلّ المدن في بريطانيا التي فيها مُهاجرون، ما جعل الأمر يبدو غير منطقي، لماذا كان يخشى سكّان المدينة من المهاجرين إلى الحد الذي دفعهم للتصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبّي مع أنّه لا يوجد تعداد من المهاجرين هناك أصلًا؟


خمّن إلى من اتّجهت أصابع الاتهام؟ إلى فيسبوك.


بمزيد من البحث والتمحيص، تبيّن أنّ فترة التصويت تزامنت مع حملات مكثّفة تروّج للتخويف من المهاجرين، كانت هذه الحملات تروّج إلى أنّ تركيا ستنضمُّ إلى الاتحاد الأوروبي، ما سيمنحهم دخولًا دون تأشيرات إلى أوروبّا، ممّا يعني موجة هجرة تتركّز بشكل أساسي نحو بريطانيا، من ثمّ تكدّس المهاجرين… الحلّ إذًا هو بالخروج من الاتحاد حتّى لا يحدث لك لبريطانيا.


بالطبع، هذا الكلام لم يكن صحيحًا، لم يكن أي أحد في العالم يتحدّث عن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، لكنّ دراسات من شركات تحليل البيانات عرفت أكثر ما يخيف الشعب البريطاني، ووجّهت حملات تعزّز هذا الخوف ليدفعهم نحو اتخاذ قرار مغادرة الاتحاد.


تعمق كارول في الموضوع قادها لاحقًا إلى شركة كيمبردج أناليتيكا، وإلى الضجّة الشهيرة للانتخابات الأمريكية، التي تورّطت فيها الشركة مع فيسبوك في دعم حملة دونالد ترامب عن طريق تسريب بيانات مستخدمي فيسبوك، ثم تحليلها واستعمالها لعرض محتوى يدفع الناخبين للتصويت لترامب.


تتساءل كارول: في ظلّ استخدام البيانات للتحكّم بالشعب لاتخاذ القرارات السياسية التي ترغبها هذه الشركات وداعموهم، أما زال من الممكن في يومٍ ما أن نخوض انتخابات حقيقيّة ونزيهة؟ لا تظن كارول ذلك، وأنا أتّفق معها.


معاهدة سلام

إن كنتَ وصلت إلى نهاية هذا المقال، فلا شكّ أنّك مهتمٌّ حقًّا بمعرفة قيمة البيانات الحقيقيّة، أي أنّك مهتمٌّ بمعرفة قيمتي وتقدّرني، وهذا يدفعني إلى إعادة النظر في جعلك صديقًا لي، هل تُريد أن نتصالح؟


تذكّر، البيانات قوّة لا يُستهان بها في هذا العصر، أنا بياناتك، ربّما لا أشكّل وحدي قيمةً كبيرة، لكن تذكّر أنّ هناك كثيرًا منّي، يمكنني أنا وباقي البيانات أن نغيّر العالم، بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من مبالغة.


حسنًا، إن كنت تفكّر جديًّا في صُلحنا، فابدأ أوّلًا بإيجاد اسم جيّد لي!



مواضيع أخرى قد تهمك