المشهد الأول
تضيء شاشة الهاتف تباعاً وتنتبه هي لسيل الإشعارات الوافد. كأي مستعمل لوسائل التواصل الاجتماعي، تبهجها الإشعارات، وتتوقع أن يكون التواصل من دائرة معارفها، وقبل النقر عليها تحاول تخمين مضمونها، وتتوقع أنها ردوداً من آخر الأشخاص الذين تواصلت معهم أو أنها تفاعلات على منشوراتها.
لكن نقرة واحدة فقط تكشف محتوى الرسائل لينقبض قلبها وتسري قشعريرة خوف في جسدها! تتوالى الكلمات البشعة على شاشتها، ولا تستطيع إيقافها، تكون مليئة بالهجوم على شخصها، وحينما تقرر عدم الإجابة؛ تصبح لهجة الرسائل أقسى، فتبدأ في شتمها، وتهددها بالوصول لعائلتها.
تمر اللحظات ثقيلة قبل أن تسعفها أفكارها للوصول لزر الحظر، وبعد ضغطه، تشعر براحة مؤقتة، تطاردها بعدها الوساوس، من يكون هذا الشخص؟ ولماذا يراسلها هي تحديدًا؟ وهل تهديداته حقيقية؟ هل يمكنها إخبار أي أحد؟
تدفع الوساوس بعيدًا، بعيدًا بحيث لا تعكر يومها أو تمنعها من الاستمرار في نشاطاتها المعتادة، وتتحفظ عن إخبار أي أحد، لأن الإجابة ستكون كالمعتاد: هذا حادث متكرر، تألفه أي فتاة من مستخدمات وسائل التواصل الاجتماعي، وتعتاد أن تتعامل معه بأقل قدر ممكن من الأذى!
بعد دقائق، يجعلها صوت الإشعارات تجفل من جديد، لكنها تكتشف أنه رد غير مؤذ على تعليق تركته على منشور إحدى الصفحات العامة، تفكر بينها وبين نفسها أن هذا التعليق ربما هو السبب فيما تعرضت له، فتقوم بحذفه، وتقرر أن تبتعد عن المشاركة في الصفحات العامة بعد الآن.
رسالة أخرى تكشر عن أنيابها بمجرد أن تضغط على أيقونة الرسائل: " اللي زيك مفروض يموتوا ".
يخبرها بأن إخوتها سيشتاطون غضباً لو علموا أن أختهم تحاورالرجال في الإنترنت، وتشارك آرااءها مع الغرباء، وتتلقى رسائلهم، إنها مسؤوليتها، لماذا لا تلغي تفعيل الرسائل من غير الأصدقاء؟ هي حتماً لا تمانع التواصل معه إذاً.
تقوم بحظره من جديد، وتغلق خاصية الرسائل، لكن أقل من ساعة تمر قبل أن يراسلها على منصة تواصل جديدة: "مش حتهربي أبداً، ولو نجيك الحوش".
يصيبها الهلع، وتتوالى السيناريوهات أمام عينيها بسرعة، أنه يعرف اسمها، وصورتها، ماذا لو تعرض لها بينما تغادر منزلها كل صباح، أو تعود إليه في الظهيرة؟ ندمت لوجودها بشخصيتها الحقيقية على الإنترنت، وتمنت لو كانت حساباً وهمياً لا يمكن تهديدها بشيء.
قررت التوسل للآخر وراء الشاشة، ليتركها وشأنها، لم تؤذه هي يوماً، كيف يمكن لشخص لم تتسبب له بالأذى أبداً أن يكون مصراً بهذا الشكل على إيذائها؟
ظنت أن كلماتها ستحوز عطفه، لكن سيلاً ساخراً من الشتائم وصلها فوراً رداً على رسالتها، لتنهمر -من غير أن تدري- دموعها بحرقة، لماذا يحصل كل هذا لها؟
في وجل، بحثت عن خيار إيقاف التفعيل في كل وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها، وتحول حسابها في رسائل أصدقائها وعائلتها إلى "مستخدم".
اختفى وجودها على وسائل التواصل الاجتماعي تماماً، صار أيقونة رمادية مبهمة.
المشهد الثاني
يمتد على ظهره بينما تمر أمامه عشرات المنشورات، سياسة، ورياضة، وفكاهة، يملؤه حنق على وضع البلاد ومن فيها، وعلى وضعه الشخصي أيضاً، يلفت نظره منشور عن إشكال ما، يتخذ المنشور صبغة فكاهية لكنه يزعجه لأنه يخالف آرائه، يطالع التعليقات فيجد الكثير منها تدعم وجهة نظر صاحب المنشور، وأخرى تخالفه. لكنه يقرأ تلك التي تدعم وجهة النظر التي يظن أنها غبيّة، وأصحابها من "الرؤوس المربعة"، يلفت نظره تعليق حاز الكثير من الإعجابات، ويبدو مقنعاً ومنطقياً، لكن هذا لن يخدعه، أن التعليقات المنمقة التي يتظاهر أصحابها بأنهم متعلمون أو مثقفون لا تخدعه، هو قادر تمامًا على اكتشاف هذا الوهم!
ينتبه لكون كاتب التعليق هو امرأة، يضحك بسخرية، ها! حتى النساء أصبح لهن آراء! لا بد أنها من أولئك المتعالمات اللاتي يدعمن حقوق المرأة ويفسدن المجتمع، يضغط على أيقونة البروفايل ويرسل الرسالة الأولى: "مكانك المطبخ" يتبعها بأخرى ليوضح لها أن آرائها غبيّة لأنها امرأة لا ينبغي أن تشغل نفسها بأمور الرجال لأن عقلها الصغير لن يكون قادرًا على فهمها.
لا ترد، فيفكر بينه وبين نفسه أنها تظن أنها أفضل من أن ترد عليه، فيقرر أن يستفزها لتقوم بأي رد فعل وليتأكد من أن رسالته وصلتها، يقرر أن الشتائم البذيئة ستخرج أي شخص عاقل عن طوره، وستدفعها حتماً للتفاعل معه، فيستخدم ذلك في رسائله التالية.
لا ترد مجددًا، فيتّبع أسلوب الترهيب: من تظن نفسها؟ هل تعتقد أنها آمنة وهو يعرف الآن اسمها كاملًا وشكلها؟ ثم أن بإمكانه الوصول لعائلتها وخلق مشكلة لها! أو ربما بإمكانه حتى إيجادها هي شخصيًا!
بينما يكتب المزيد، ينبهه التطبيق الخاص بالمراسلة بعدم قدرته على الاستمرار في إرسال الرسائل لأنه قد تم حظره من المستخدم الذي يحاول مراسلته.
يشعر بالامتعاض، تصبح هدفاً غير منطقي لغضبه، وانزعاجه، ويجعل منها تنميطاً عن كل الصفات الشريرة والسيئة التي كان بإمكانه التفكير فيها. فيبحث عن وسيلة أخرى للوصول إليها، يتذكر حساباً قديماً كان يستخدمه، فيقضي وقتاً طويلاً في محاولة استرجاعه، وينجح أخيراً في استعادة الحساب وتغيير كلمة المرور، يقضي وقتاً أطول بحثاً عن الصفحة والمنشور التي وجد اسمها فيها، لكنه لا يجد تعليقها.
يحاول عدة مرات كتابة اسمها بتهجئة خاطئة، وأخيراً وبعد محاولات، يجدها.
يشعر بالنصر، لقد أصبح الوصول إليها أشبه بلعبة، عززها أنها لا يمكن أن تصل له أو تؤذيه أبدًا، لأن اسمه الحقيقي غير موجود على أي من حساباته، ولا صورته.
ضغط على أيقونة الرسائل واختار رسالة قاسية عقاباً لها على حظره: " اللي زيك مفروض يموتوا" بعد دقائق تحظره مجددًا.
يسري الأدرينالين في عروقه بينما يستمر الغضب اللامنطقي في التصاعد، يخطر له أنها تستخدم اسمها الحقيقي -وهذه غلطة يجب أن تدفع ثمنها حتى لا تكررها- وربما يكون بإمكانه إيجادها من خلاله في وسائل التواصل الأخرى.
كان حدسه دقيقاً، بمجرد كتابة اسمها ظهرت مجموعة من الحسابات كان إحداها يخصها، ضغط على أيقونة الرسائل من جديد، وعبّر لها عن فخره بنصره: "مش حتهربي أبداً ولو نجيك الحوش".
لأول مرة، يبلغه التطبيق بأنها تكتب شيئًا، يتوقع بأن تهدده أيضاً، أو تشتمه، يعد نفسه لكل السيناريوهات، لكنها ترسل رسالة تستجدي عطفه، وتطلب منه أن يتركها وشأنها.
يختفي الغضب، ويضحك، يشعر الآن بأنه فعل ما كان ينبغي عليه فعلاً، وها هي الآن تتوسل، لقد علمها درساً لن تنساه، شعر بالفخر لأنه يقوّم المجتمع، ولأنه الآن السبب أن واحدة من النساء ستدرك فطرتها الحقيقية وتبتعد عن نقاشات الرجال!
قرر بأنه سيلقنها درساً أخيراً، سيخيفها أكثر حتى لا تنسى هذه التجربة أبداً، فيرد عليها بمجموعة من الرسائل النابية، هذا سيعلمها ألا ترد على الغرباء مرة أخرى!
من جديد، اختفت الأيقونة الخاصة واستبدلت بأخرى رمادية، شعر بالرضا عن نفسه، لقد انتهت مهمته.
_________________________________________________
يسبب خطاب الكراهية الموجه ضد النساء في عزلهم ومنعهم من المشاركة على منصات التواصل الاجتماعي، بالإضافة للتأثيرات السلبية والتي قد تتصاعد لتهدد السلامة النفسية والجسدية للمتضررات.
يكون المتسببون في خطاب الكراهية عادة أشخاصاً تدفعهم صور نمطية مغلوطة عن دور المرأة في المجتمع، ويحميهم قدرتهم على الاختفاء وراء وجود إلكتروني يبقيهم بعيداً عن طائلة المساءلة أو العقاب.
وقد يفشل هؤلاء المعتدون في فهم مدى جديّة الآثار المترتبة عن أفعالهم، وكيفية تأثيرها على المجتمع ككل، وعلى المساحات الرقمية التي نتواجد فيها.
خطاب الكراهية يجعل من المساحات الرقمية غير آمنة للنساء والفتيات، ويحد من مشاركتهن الفعالة في النقاشات التي تدور على صفحات شبكة الإنترنت، ومن استفادتهن من هذه المساحات للدراسة، والعمل، والترفيه، والتواصل.
الوجود الرقمي حق أساسي لكل مستخدمي الإنترنت، وينبغي دائماً تجنب تحميل مسؤولية خطاب الكراهية للضحايا، والحث على التبليغ فوراً عن كل حالات خطاب الكراهية والمحتوى المؤذي.
مواضيع أخرى قد تهمك
-
2021/10/23هل تقرأ الشركات محادثاتنا؟ وشن هو التشفير بين الطرفيات؟زعما يقدروا يقروا محادثاتنا ؟ "محادثاتنا في تطبيقات المراسلة وكل البيانات والمعلومات الشخصية والصور والملفات وغيرهم، زعما يقدروا الشركات يشوفوهم؟ وهل يقدر حد من الخارج "كـHacker" انه يسرقهم؟"
-
2021/09/18جامع البياناتفي هذه الديستوبيا، تعلم الشركات الكبرى أو "الأخ الأكبر" الكثير عن مستخدميها، وتستفيد من ما تعرفه وتجني أموالًا منه. يقال إنّك حينما لا تدفع ثمن السلعة فاعلم أنك السلعة، يقدَّر حجم سوق البيانات الضخمة (Big data) بـ64 مليار دولار أمريكي، ومن المتوقَّع أن يصل إلى 103 مليار دولار عام 2027.
-
2022/01/13مش مهم: أثر بياناتك غير المهمة"أنا أمثّل النسخة الرقميّة منك، يمكنك أن تعتبرني حزمةً من البيانات التي ترميها في العالم الافتراضي طوال الوقت، أثناء تصفّحك لمواقع التواصل الاجتماعي أو في خضمّ بحثك عن معلومة ما في قوقل، أنتَ توزّع البيانات عنك هنا وهناك طالما أنّ هاتفك معك، وأنا، يا من لست صديقي، هو هذه البيانات.