-(4).png)
-(4).png)
أزمة برومات البوتاسيوم في الدقيق الليبي - بين النفي والتأكيدات 2025
تصدر ملف برومات البوتاسيوم في الدقيق المستخدم بالأسواق الليبية، منذ منتصف عام 2022، واجهة الجدل الصحي العام، متحولاً من مجرد قضية فنية إلى أزمة ثقة وطنية متصاعدة حيث تأتي أهمية هذا الملف من كون المادة، التي تُستخدم كمُحسِّن للعجين محظورة قانونياً في ليبيا منذ عام 2005، ومصنفة عالمياً على أنها مُسرطن محتمل بحد دولي مسموح به يقارب الصفر. وبالرغم من أن الحظر القانوني راسخ ومشدد بقرارات متتالية حتى عام 2021، فإن الادعاءات حول وجودها أصبحت حقيقة مختبرية موثقة دولياً، بينما يستمر النفي الرسمي المتواصل من الجهات الرقابية الليبية حتى نوفمبر 2025. هذه الخلفية المتناقضة بين النتائج المخبرية عالية الحساسية والإنكار المستمر هي ما أدى إلى ظهور موجة من القلق الشعبي التي رصدتها وسائل التواصل الاجتماعي وكانت السبب المباشر وراء تفاقم الأزمة
الخلفية:
منذ منتصف عام 2021، تصدر الجدل في ليبيا ملف صحي حساس ذو تداعيات خطيرة وهو اكتشاف مادة برومات البوتاسيوم في الدقيق المستخدم لصناعة الخبز والمعجنات. وقد قمنا في أنير بمتابعة هذا الملف في تحقيقين سابقين هنا:
الخبز والمحسّنات المُسرطنة... حقيقة استخدام برومات البوتاسيوم في المخابز الليبية 2021
وهنا:
قضية الخبز المسرطن تعود للواجهة مجدداً 2022
تُستخدم هذه المادة كمحسن للعجين لكنها مصنفة عالميًا على أنها مادة مسرطنة محتملة وتُسبب أضرارًا صحية للكلى والغدة الدرقية وغيرها. يعتبر الحظر القانوني لهذه المادة في ليبيا راسخ ويمتد منذ عام 2005، عندما صدر القرار رقم (475) بحظر استيرادها واستعمالها. وتم التأكيد على هذا الحظر في عام 2015، وجاء القرار رقم (258) لعام 2021 ليؤكد ويشدد على منع استيرادها أو استخدامها أو تسويقها تحت أي شكل.

صورة لقرار حظر استخدام مادة برومات البوتاسيوم
ظهرت أولى الإشارات العلمية المحلية المقلقة في عام 2020 عبر مشروع تخرج لطالبة في تاجوراء، حيث توصل البحث حينها إلى وجود نسب تتراوح بين 300 إلى 1300 ضعف من المسموح به في عينات خبز. وبالرغم من ذلك، استمر النفي الرسمي من مركز الرقابة على الأغذية والأدوية، حيث زعم المركز عدم وجود عينة واحدة تحتوي على هذه المادة المحظورة.
وفي هذا السياق، رصدنا تداول الادعاءات التالية التي يستهدف هذا التقرير التحقق منها:
◉ الإغلاق الجماعي للمخابز:
مع تصاعد الأنباء عن نتائج التحاليل الخطيرة التي أثبتت تجاوز المستويات العالمية المسموح بها، كان رد الفعل هو تداول ادعاء عن تحركات فورية وعقابية من قبل السلطات. هذا التداول لم يقتصر على التحذير، بل وصل إلى حد الإعلان عن إجراءات فعلية على الأرض، خاصة في المنطقة التي شهدت بداية التحقيقات والإغلاقات:
"اغلاق اغلب المخابز في الجبل الغربي هده اللحظات بسبب تأكيد وجود برومات البوتاسيوم لاحول ولا قوة الا بالله"

◉ تعميم طريقة اختبار غير مثبت علمياً للكشف المنزلي
في ظل غياب البيانات الموحدة والمطمئنة من الجهات الرقابية واستمرار الجدل، ظهرت الحاجة الملحة للجمهور للتحقق من سلامة غذائه بمعزل عن الجهات الرسمية. تمثلت في ادعاءات مضللة محاولة للمشاركة الأهلية في سد فجوة الرقابة والتحليل، مؤكدة على مدى انتشار القلق ولم تكتفِ المبادرات الأهلية بالتحذير، بل قدمت منهجية عملية وشبه علمية تعتمد على تفاعل حمض الأسكوربيك (فيتامين C) مع اليود للكشف عن الخصائص المؤكسدة القوية لبرومات البوتاسيوم. هذا التفصيل الدقيق في تداول طريقة الاختبار يدل على مستوى عالٍ من الانخراط الشعبي في محاولة فهم وحل الأزمة
"نتيجة لما يتداول في وسائل التواصل الاجتماعي من وجود مادة برومات البوتاسيوم المسرطنة، والتي تستعمل كمُحسن لانتفاخ الخبز رأينا نحن واحة العلوم للإبداع والاختراع بالزنتان أن نعطيكم اختبار منزلي يمكنكم القيام به للتأكد من وجود هذه المادة من عدمها طريقة اختبار شبه دقيقة للكشف عن برومات البوتاسيوم منزليًا. هذه الطريقة تعتمد على فيتامين C (حمض الأسكوربيك) مع كاشف اليود، وتعطي نتيجة قريبة من نتائج المختبر... مع تفاصيل المواد المطلوبة وخطوات الاختبار وتفسير النتائج: ظهور اللون الأزرق الغامق أو البنفسجي يشير إلى وجود المادة المؤكسدة"

◉ تضليل بنتائج تحاليل قديمة
لتعزيز موثوقية هذه المخاوف، استندت الإدعاءات المتداولة بشكل كبير إلى تأكيدات مختبرات خارجية، وتحديداً من تونس (كما حدث في يونيو 2022 مع مختبر LABVET)، لربط الدقيق الليبي بوجود تراكيز عالية تجاوزت 26.8 mg/kg. هذا الاستناد إلى مرجعية دولية يؤكد عمق الأزمة وضرورة التحقق من النتائج المتداولة:
"نتائج تحاليل تونس التي أكدت أيضا وجود مادة برومات البوتاسيوم في الدقيق المستخدم في أغلب مخابز ليبيا مادة مسرطنة... نتائج تحاليل تونسية أكدت وجود برومات البوتاسيوم في اغلب الدقيق المستخدم في المخابز الليبية وهي مواد مسرطنه عفا الله الجميع ولا حول ولا قوة الا بالله"

◉ ما صحة هذه الادعاءات؟ شهد شهر يونيو 2022 تحولاً جذرياً في الملف، حيث أرسل المركز الليبي المتقدم للتحليل عينات دقيق إلى مختبر LABVET المعتمد دولياً في تونس. باستخدام تقنية Ion Chromatography عالية الحساسية، وأكدت النتائج وجود مستويات خطيرة من برومات البوتاسيوم في مصانع الغرب الليبي، مسجلة قيماً تراوحت بين 17.4 mg/kg و 26.8 mg/kg.

صورة تظهر تقرير مختبري لعينات من الدقيق الليبي لبرومات البوتاسيوم
تجاوزت هذه المستويات بكثير المواصفات الليبية للحد المسموح به وبناءً على ذلك، فتح مكتب النائب العام تحقيقاً رسمياً، وأكدت تحاليل ألمانية لاحقة وجود المادة في 27 عينة خبز ودقيق، مما أدى إلى إغلاق ثلاثة مطاحن رئيسية وإحالة المسؤولين عنها للتحقيق.
◉ تناقض منهجيات تحليل الدقيق
في الفترة بين يوليو وأغسطس 2022، أجرت كلية الصحة العامة بجامعة بنغازي مسحًا محليًا في الشرق الليبي باستخدام تقنية UV-Vis Spectrophotometer الأقل حساسية، وأظهرت التحاليل خلو غالبية العينات من المادة، إلا أن هذا التباين يُفسر غالبًا بالاختلاف الجغرافي بين مناطق التحليل وانخفاض حساسية المنهجية المستخدمة في الكشف عن التراكيز المنخفضة. وفي نوفمبر وديسمبر 2022، أعلن مركز الرقابة على الأغذية والأدوية في مؤتمر صحفي أن نتائج الفحص المعاد لعينات الشركة الاستثمارية أظهرت خلوها من برومات البوتاسيوم، مما يشير إلى أن الشركات قد عدلت إنتاجها بعد بدء التحقيقات والاغلاقات، وفيما نفى رئيس نقابة خبازي ليبيا "اخريص محمد" وجود المادة، أكد وزير التعليم العالي في تصريح عن الهيئة الليبية للبحث العلمي وجود برومات البوتاسيوم في عينات الخبز.
فيما أكد مدير عام المركز الليبي المتقدم للتحاليل، د. ناجي جمعة قريش، صحة نتائج تحاليل المركز وأعقب أن أول بحث نشر عام 2020 أظهر مستويات تعادل 300 إلى 1300 ضعف ما تسمح به المعايير الأمريكية.
بالرغم من هذه النتائج المثبتة والمتكررة يستمر المركز الوطني للرقابة على الأغذية والأدوية في تفنيدها. فقد وصف م. وائل بن عامر، عضو لجنة التحاليل بالمركز، ما يُنشر بأنه "شائعات وحملات كيدية"، مؤكدًا أن المركز أجرى بحثاً على 454 عينة ولم يجد أثراً للمادة في العينات التي اختبرت حسب مواصفات الجمعية الأمريكية لكيمياء الحبوب. وقد استمر هذا الموقف حتى وقت متأخر، ففي 17 نوفمبر 2025، أكد مدير إدارة الرقابة على الأغذية بنغازي، محمود الزايدي، عدم صحة الشائعات، مشيرًا إلى أن النتائج المخبرية التي اطلع عليها شخصيًا أثبتت خلو المنتجات الغذائية من هذه المادة.
يظل ملف برومات البوتاسيوم في الدقيق الليبي عالقاً بين النتائج الموثقة من مختبرات عالية الحساسية التي تؤكد وجود المادة، والنفي المتواصل من الجهات الرقابية الرسمية، مما يشير إلى أزمة ثقة ومنهجية عميقة. هذا التناقض المستمر يفرض ضرورة ملحة لتوحيد أساليب الفحص على المستوى الوطني لتبديد الجدل وحسم الموقف العلمي والقضائي بشكل نهائي.
المصادر
مواضيع أخرى قد تهمك
2025/09/22تقرير الذكرى الثانية لإعصار دانيال: أصداء المأساة وتحديات التضليل الإعلامي
2023/05/08كيف زلزلت الأخبار المضللة الحقيقة حول زلزال تركيا وسوريا؟لطالما كانت الأخبار المضللة والزائفة موجودة في المجتمع البشري، من أبسط أشكالها المتمثلة في الشائعات الشفهية، وحتى الأخبار والمقالات المضللة على صفحات الصحافة الصفراء. لكن الإنترنت، وسهولة التواصل الناتجة عنه، عززت من مدى انتشار الأخبار الزائفة. ولكن لماذا تنتشر هذه الأخبار؟ ومن الذي يحمل م
2022/03/11الجماهيرية والصليب الأحمر والحرب في أوكرانياتترافق الفوضى التي تسببها الحروب مع فوضى أخرى في نقل أخبارها. فينهمر علينا سيلٌ من المعلومات عنها، وتكثر أخبارها، ويختلط صوابها مع باطلها. إذ تتسابق وسائل الإعلام -القديمة والحديثة- في نقل الأخبار لتظفر بحصريتها، غير آبهين بدقة المعلومة؛ فالمهم من يصل أولاً، لا من ينقل الخبر الأصح.