في حياتنا الرقمية -على مواقع الانترنت والتواصل الاجتماعي-، قد تقع على مسامعنا أو أنظارنا عدد رهيب من الأخبار والحسابات غير المعروفة أو موثوقة المصدر، دون التدقيق أو السعي للحقيقة قد نتفاعل في الكثير من الأحيان وبشكل تلقائي معهم دون معرفة من ورائهم وما هي أهدافهم وقد نتأثر من ما تقدمه من محتوى نظراً لغزارته ومدى استهدافه.
الذباب الالكتروني؟
الذباب الالكتروني، كثيراً ما نسمع هذا المصطلح بشكل عابر في الفضاء الإلكتروني فهو وصف للحسابات الآليّة أو المبرمجة على مواقع التواصل الاجتماعي والتي لا تُدار من قِبل بشر حقيقيّين بشكل مباشر، وإنّما باستخدام تطبيقات مُبرمجة مسبقاً لإتمام مهام معيّنة.
تُوظّف هذه الحسابات من أجل نشر رسائلَ أيديولوجيّة لصناعة الرأي العام أو للتأثير عليه، تلفت الانتباه إلى فكرةٍ وتُهمّش أخرى، أو بهدف إثبات أنّه ثمّة قاعدةٌ واسعةٌ من الدعم والتأيّيد لموضوع أو شخص معيّن. عادةً ما تُستَغلُّ شبكات الذباب الالكتروني في أوقات الحروب والنزاعات لأهدافٍ سياسيّة لنشر معلومات مغلوطة ومضلّلة، أو في التأثير على رأي الناس في مواضيع وقضايا حساسة.
وهُنا يُطرح السؤال، هل تعلم عزيزي القارئ مدى انتشار وتواجد (شبكات الذباب الإلكتروني) التي تؤثر في مواقع التواصل الاجتماعي في ليبيا؟
أسفرت نتائج تحقيق قامت به (أنير) عن العثور على شبكة ذباب الإلكتروني مكونة من أكثر من 80 حساب تشغل موقع (تويتر)، وتنشط في نشر اخبار و ايديولوجيات معينة تتمثل في دعم بعض الأطراف على حساب الأخرى داخل إطار عالم السياسة الليبية.
أنير تعثر على شبكة ذباب إلكتروني على تويتر
نعود بالزمن الى الوراء وبالتحديد في عامي 2014 - 2015، في البداية كانت هذه الحسابات في الأصل لأشخاص عاديين -جلّهم وليس الكل- من إندونيسيا وذلك بعد تفقد المعلومات المرفقة في هذه الحسابات قبل 2022، حيث كانت المعلومات الشخصية والأسماء والصور والتغريدات الموجودة مسبقاً تعبّر عن أفراد إندونيسيين، ولكن توقفت كل النشاطات على هذه الحسابات في 2014 - 2015.
وبالانتقال إلى الساعات المبكرة من (9 يناير 2022) بتوقيت ليبيا، (أي بعد 8-7 سنوات) عادت كل هذه الحسابات فجأة لتتفعّل بنشر تغريدات عشوائية بعضها باللغة العربية والآخر بالإنجليزية، لا تزال طريقة الحصول على هذه الحسابات غير معروفة ولكن توجد الكثير من الطرق ومنها: شراء حسابات تتمتع بشعبية كبيرة أو الإستيلاء عليها عبر الاختراق أو التصيد او من خلال استغلال قواعد البيانات التي يتم تسريبها بين الحين والآخر على الانترنت.
في الفترة بين (25 يناير و 1 مارس) بدأت هذه الحسابات بنشر مجموعة من التغريدات المتشابهة باللغة العربية الفصحى واللهجة المصرية في بعض الأحيان، كانت أغلب هذه التغريدات غير منطقية حيث كانت تحتوي على اقتباسات او ادعية دينية أو جُمل عشوائية.
كانت المفاجأة الكبرى في (مارس 2022) وبالتحديد بين (3 - 7) عندما بدأت هذه الشبكة من الحسابات بالنشاط ونشر تغريدات تتحدث عن الشأن الليبي تحت هاشتاق (#ليبيا) ولوحظ أنه لكل التغريدات طابع ايديولوجي منسق حيث كانت تُنشر بشكل يومي ممنهج.
محتوى التغريدات كان متنوع بين تغريدات تحمل صور وتغريدات قصيرة، كانت بعض الصور ذات جودة عالية وتعطي إيحاء بأنها مصممة خصيصا للنشر على هذه الحسابات وكانت تتضمن اقتباسات يبدو أنها أخذت من أخبار متداولة، بعضها مزيف وأخرى مضللة، أما بالنسبة للتغريدات القصيرة فهي في الغالب اقتباسات من أخبار قد تم اختيارها بشكل ممنهج لتبدو وكأنها تغريدات فريدة تعبر عن آراء ليبيين وعرب مهتمين بالشأن الليبي مع وجود بعض التغريدات الفريدة التي لا تبدو بأنها مقتبسة من مكان آخر.
(مثال لتغريدة فريدة)
بعد أسبوع من النشاط في الساحة الليبية ونشر تغريدات تتحدث عن الحالة السياسية الليبية تم تغيير أسماء الحسابات من أسمائها الأصلية (الأجنبية) الى أسماء ليبية عربية وكذلك تغيير الصور الشخصية الى صور لأشخاص ليبيين او مشاهير ليبيين.
يُعتقد أن الهدف وراء هذا التغيير هو على الأغلب لزيادة مصداقية هذه الحسابات أو لإبعاد الشبهات عن كونها مزيفة، حيث تعتبر هذه التعديلات نقطة تحولية في عملية تطور هذه الشبكة فعلى سبيل المثال" تم تغيير حساب "Rhey" إلى "حمادة بن خميس" وتم تغيير صورة الحساب الى صورة شاب ليبي يرتدي الزي التقليدي، بينما أصبح "Gabriel" من أندونيسيا "جومانا مراد" مع تغيير الصورة الشخصية للحساب من شعار به علم إندونيسيا الى صورة الاعلامية الليبية غالية أبوزعكوك.
(مجموعة من الأمثلة عن تغيير أسماء وصور الحسابات)
تقوم هذه الشبكة بإستغلال العديد من الهاشتاقات النشطة حتى في حالة عدم توافق المحتوى مع الهاشتاق، وذلك بسبب كثرة الأخبار في هذه المواضيع وكانت ابرز الهاشتاقات التي تم استعمالها: (#ليبيا #بنغازي #طرابلس #مصراتة #باشاغا #ستيفاني_وليامز)، كذلك تم استخدام هاشتاقات رائجة عربيا وعالميا مثل: (هاشتاق #يومالمرأةالعالمي وهاشتاق #عيد_الأم)، وحتى الآن رصدت أنير أكثر من 80 حساب يقوم بالتفاعل مع بقية الحسابات بالاعجاب واعادة التغريد.
تقوم هذه الحسابات بشكل اساسي بنشر تغريدات تنتقد بشكل ممنهج حكومة الوحدة الوطنية وبالأخص رئيس وزارتها.
ما التأثير الذي قد تحدثه هذه الشبكة؟
بشكل أساسي هو تضخيم الخبر وصناعة الرأي العام -كما ذكرنا سابقاً- وذلك بجعل محتوى معين بارز وكأنه ذو شعبية ويعكس الرأي العام.
لا يبدو أن هذه الشبكة تنتهج وسيلة (زيادة عدد المتابعين) لنشر المحتوى، فمثلاً حساب "جومانا مراد" به متابع واحد، بينما حساب "حمادة بن خميس" به عشرة متابعين أغلبهم حسابات غير نشطة يبدو أنها حسابات قام بمتابعتها المستخدم الأصلي في وقت سابق.
تستغل هذه الشبكة استعمال الهاشتاقات على نطاق واسع من التغريدات المنسقة بشكل اوتوماتيكي، فبالرغم من نقص المتابعين هذا لا يعني بأن التغريدات والمحتوى المضلل لا يصل إلى عدد كبير من الأشخاص، فمن خلال الهاشتاق سيظهر المحتوى للشخص الذي قد يبحث عن أخبار في الشأن الليبي ليجد هذه التغريدات التي تركز على وجهة نظر واحدة (وتهمّش الأخرى) وهكذا تعطي انطباعا على أنها معبرة عن رأي عدد أكبر من ما قد يكون عليه في الواقع وبالتالي الى تضخيم الدعم لطرف دون آخر في ليبيا.
التوسع خارج تويتر!
بعد ما يقارب ثلاثة أسابيع من بدء نشاط هذه الشبكة على تويتر، ولعدم وجود رادع أو أي إجراء بخصوص هذه الحسابات، أنشئت قناة على اليوتيوب تحت اسم "النبأ الليبي" وتم ربط محتواها بنشاط هذه الشبكة، تقوم هذه القناة بنشر مقاطع فيديو قصيرة في نفس السياق الذي تتبعه الشبكة، حيث يتم نشر تغريدات مرفقة بهذه المقاطع القصيرة التي تم رفعها مسبقاً على قناة اليوتيوب المستجدة، فيما بعد تم إنشاء قناة يوتيوب أخرى تحت اسم "ليبيا اليوم"، تنشط في تنشر مقاطع مشابهة.
إن اختيار النشر تحت أسماء مألوفة مثل "النبأ الليبي" و "ليبيا اليوم" يبين مدى معرفة الشبكة بالمسميات الليبية والعربية، ومثل هذه التسميات تعطي انطباعاً اولياً بأن الأخبار المتداولة ذات مصداقية لأنها تأخذ طابع المواقع الإخبارية.
التوسع المستمر للشبكة داخل وخارج تويتر يزيد من تعقيد عملية تتبع الشبكة، ولولا تتبع أنير الشبكة من بداية ظهورها لما كان من السهل ربط الحسابات بقنوات اليوتيوب وغيرها من توسعات قد تحدث لو لم تتدخل منصة تويتر.
(مجموعة من الأمثلة توضح قنوات اليوتيوب ونشر محتواها في تغريدات على تويتر ضمن نفس الشبكة)
ملخص نشاط الشبكة:
الحسابات بدأت نشاط النشر بين 3 مارس 2022 و 7 مارس 2022 وتستمر حتى اليوم في نشر منسق باستخدام هاشتاقات مختارة.
يوجد على الأقل 80 حساب يعمل على نشر نفس التغريدات في نفس الوقت وقد بدأ نشاطهم في أوقات متقاربة.
معظم الحسابات كان بها نشاط تويتات باللهجة المصرية في شهر فبراير قبل أن يبدأ نشاط نشر تويتات عبر هاشتاق (#ليبيا).
استخدمت هذه الحسابات في أكثر من مناسبة الهاشتاق بطريقة ممنهجة لجذب الاهتمام، مثل استخدام هاشتاق يوم المرأة العالمي يوم 8 مارس في تغريدات لا علاقة لها بيوم المرأة.
تستعمل هذه الشبكة العديد من الهاشتاقات ومن أبرزها: (#ليبيا - #باشاغا #طرابلس - #بنغازي - #مصراتة - #ستيفاني_وليامز)
توسع الشبكة بإنشاء قناتين على موقع يوتيوب ونشر فيديوهات قصيرة بها ومشاركتها عبر تغريدات على موقع تويتر.
(مثال لنشاط حساب معّين قبل استخدام الهاشتاق وبعده)
لماذا تويتر؟
يتضح أن تويتر هو البيئة المناسبة لمثل هذه الشبكات للتواجد والتأثير على الرأي العام في مواقع التواصل الإجتماعي، وذلك بسبب ضعف وسائل وخوارزميات تويتر الحالية في رصد ومكافحة الذباب الإلكتروني النشر الممنهج للمحتوى المضلل فيما يتعلق بالشأن الليبي، الأمر الذي جعل هذا النشاط يعمل بشكل مخفي، وهذا يفسر أيضا اختيار منصة تويتر على غرار موقع (فيسبوك) الذي يعتبر موقع التواصل الاجتماعي الأكثر استخداما في ليبيا.
حتى بعد تقديم عدة بلاغات حول هذه الحسابات وبعض التغريدات على تويتر فلم تثمر أي منها أية نتيجة -والى تاريخ نشر هذا المقال- لا تزال الغالبية العظمى من هذه الحسابات نشطة- .
الذباب الإلكتروني ليس بجديد في ليبيا!
ليست هذه أول مرة يتم رصد شبكة من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تحاول التأثير في الرأي العام الليبي. ففي سنة 2019، وجد مركز السياسات السيبرانية في جامعة ستانفورد خلية تستعمل وسائل مشابهة في نشر هاشتاق معيّن لتوجيه خطاب سياسي محدد مسبقاً.
وأيضا إعلان شركة فيسبوك في ديسمبر 2020 بالإطاحة بثلاث شبكات منفصلة كانت تؤثّر على أفريقيا، إحدى هذه الشبكات كانت تتكوّن من 126 صفحة و16 مجموعة و211 حساب شخصي و17 حساب على إنستجرام، وكان لكلّ هذه الحسابات آلاف المتابعين. وبالنسبة إلى النشاط الذي مورس على ليبيا بوجه الخصوص، قامت هذه الشبكة بعديدٍ من الاستراتيجيّات في التأثير وتوسيع الوصول، كذلك رُبطَ نشاط هذه الشبكة مع نشاط تأييدي لإحدى الجماعات القويّة سياسيًّا وعسكريًّا في ليبيا.
كانت الشبكتان -في المثالين السابقين- في الغالب يشغل موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وقد يكون اختيار هذه الشبكة لمنصة تويتر له علاقة بالتعلم من تجارب غيرها.
من يقف وراء الستار؟
من خلال متابعة أنير لهذه الشبكة يبدو جلياً أنه قد تم توظيف أشخاص ملمين بالشأن الليبي لمتابعة الأخبار الليبية والرأي العام الليبي على مواقع التواصل المختلفة ونشرها بشكل يومي ومستمر، حيث أن العديد من ما تم مشاركته تم اقتباسه بطريقة مضللة من مقالات اخبارية تتبع الرأي العام، ويستنتج أيضاً بأن الحسابات تعتمد على فهم قوي للّهجة الليبية، إذ يتضح هذا من التغريدات الفريدة التي تم نشرها حتى الآن.
بغض النظر عن الهوية المجهولة للجهة المتحكمة بهذه الدمى الرقمية فإن مراقبة التطور لهذه الشبكة على مدى أسبوع كشف لأنير مدى سرعة تطور هذه الشبكات في وقت قصير وسهولة صناعة شبكة لا تعتمد على التفاعل لنشر كمية هائلة من المحتوى الذي يمكن أن يؤثر في الرأي العام في وقت لاحق.
وبناء على هذا تتجلى أهمية التبليغ على المحتوى المضلل والزائف والذباب الالكتروني بشكل فوري، وكذلك ضرورة إدراك المستهلك بعدم تصديق أي محتوى غير موثوق يتم نشره على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بدون مصادر جديرة بالثقة وبغض النظر عن (الدعم الاجتماعي) للمحتوى والقضية المُتحدث عنها، فأنت حقا لا تعلم من يختبئ خلف الستار.
إقرأ ايضاً:
الذباب الإلكتروني: كيف يؤثّر علينا؟
التدخل الأجنبي والبروباغندا على مواقع التواصل الاجتماعي في ليبيا
مواضيع أخرى قد تهمك
-
2024/10/29إعصار فلوريدا وعاصفة التضليل المعلوماتي التي اجتاحت منصات التواصل الاجتماعيفي ظل التحذيرات عن اقتراب إعصار ميلتون من ولاية فلوريدا، لوحظ انتشار عدد من الصور ومقاطع الفيديو المضللة والخاطئة على منصات التواصل الاجتماعي. يسلط هذا المقال الضوء على أبرز هذه الحالات، بالإضافة إلى تحليل أنماط البيانات والمعلومات المضللة التي تستغلها الصفحات والحسابات على منصات التواصل ا
-
2023/05/08كيف زلزلت الأخبار المضللة الحقيقة حول زلزال تركيا وسوريا؟لطالما كانت الأخبار المضللة والزائفة موجودة في المجتمع البشري، من أبسط أشكالها المتمثلة في الشائعات الشفهية، وحتى الأخبار والمقالات المضللة على صفحات الصحافة الصفراء. لكن الإنترنت، وسهولة التواصل الناتجة عنه، عززت من مدى انتشار الأخبار الزائفة. ولكن لماذا تنتشر هذه الأخبار؟ ومن الذي يحمل م
-
2022/03/11الجماهيرية والصليب الأحمر والحرب في أوكرانياتترافق الفوضى التي تسببها الحروب مع فوضى أخرى في نقل أخبارها. فينهمر علينا سيلٌ من المعلومات عنها، وتكثر أخبارها، ويختلط صوابها مع باطلها. إذ تتسابق وسائل الإعلام -القديمة والحديثة- في نقل الأخبار لتظفر بحصريتها، غير آبهين بدقة المعلومة؛ فالمهم من يصل أولاً، لا من ينقل الخبر الأصح.